شعر

قصة قصيرة بعنوان (محمول) للأديب محمود عرفات .

كتب حنان محمد 

رأيتُني محمولاً فوق الرؤوس كما ينبغي لعزيز. ملفوفًا بإحكام فى لفائفي البيضاء. مضمخًا بعطر نفاذ.. لعله أصبح شؤمًا لأهل بيتي. شباب الأسرة الأشداء يحملون الخشبة بامتثال، ويسيرون بتؤدة وتروٍّ..

فكأني أمشي على ماء من فرط عذوبة انسيابهم. رحلة ناعمة.. سلسة.. لا صراخ فيها ولاعويل. فهل يريد الإنسان أن يعيش أكثر من تسعين عامًا. إنها فترة كافية.. جربتُ فيها كلَّ الطعوم والمتع والأحاسيس..

واستمتعت بتنوع مذاقاتها. حيث لكل شىء مذاق. فللغدر والنذالة مذاق مر.. لكنه ضروريٌ ليعادل حلاوة الفرح بالأبناء، والالتذاذ بالطعام الجيد والقبل المسروقة والمبذولة.

أُنصتُ لدبيب الأقدام، وأرى الأتربة تتصاعد من بين أقدام المشيعين، وأسمعُ حفيف الجلابيب الصوفية وهمهمات المتحدثين فى همس. أعجب من حاسة سمعي.

قبل أن أغادر كان سمعي قد تلف أو كاد. أشير لحفيدي الصغير ذي الخمسة أعوام.. أسأله: ماذا يقولون؟ يبتسم وهو يشير إلى بعيد قائلا: كلام كثير لا أفهمه يا سيدنا الشيخ. أنهره:

سيدنا الشيخ في عينك؟! يقول: آسف يا جدو. أقول له: أنا جد أبوك، ولست جدك. الصالة الواسعة تضيق بالعيال وأولاد العيال فى الأعياد. أحاول الاستماع إلى تفاصيل أحاديثهم فأميز بعضها ويتوه منى الكثير.

الآن وأنا أمضي محمولا.. أمشى على ماء الحزن الافتراضى. أستطيع أن أميز أحاديث المشيعين. كثيرون هم. فكرت أن أعِدَّهم فاستسخفت الفكرة: ما الفائدة من معرفة العدد. البلد كلها تطلع وراء كل ميت..

ويعود كل واحد إلى بيته متنهدًا حامدًا أنه ما زال على ذمة الدنيا. آه كنت أفكر في سمعي الذى صار حادًا.. بعد الصمم الذى كاد يُذهِب عقلي، وكأن جهازًا هائلا تم تركيبه فى رأسي، به من الفلاتر والتوصيلات والقواطع ما يجعلني أميز أحاديث الرجال وهمهماتهم الخافتة.

تذكرت الآية: “فبصرك اليوم حديد”. وفهمت أن سمعي أيضًا صار حديدًا.  أرى المشيعين وأميزهم جميعًا. أتفرس فى ملامحهم. لاتهمني المشاعر المرسومة على الوجوه،

فقد أصبحت أرى ما فى الداخل. خفت أن أضحك فيفزع الناس. كتمت ضحكاتي بصعوبة واكتفيت بالابتسام. خطر ببالي أن أهرش رأسي.

أدركت أن يديّ مقيدتان وشعري مُغطى ولايوجد مجال للحركة. قررت أن أتفرغ لمعاينة المشهد بالكاميرا التي تم تركيبها أمام عيني فتكشف كل الزوايا. هذا إخراج رائع. جعلوني فى المنتصف تقريبا.

ومع ذلك أرى من يسبقوني ومن يتبعوني. المشهد يتراءى لي في سلاسة. تعجبت من قدرتي على تمييز الوجوه والأصوات. جربت أن أعمل زوم على بعض الوجوه فرأيتها بوضوح. الملامح الخارجية والمكنونات الداخلية. لم أملك نفسي..

ارتفعت ضحكاتي. انتبهت وخشيت الفضائح، لكنى قلت لنفسي: الكاميرات والفلاتر والأجهزة المتقدمة التى تتيح لي هذه المزايا لن تغفل عن كتم قهقهاتي، فتركت العنان لضحكي وأنا واثق أنه لن يجاوز الخشبة.

فجأة قفز مشهد الوداع أمام ناظريّ. صحوت عند الفجر لكى أتوضأ للصلاة، لم أصل إلى باب الحجرة. وقعت على الأرض كأني أمثل مشهدًا للوقوع. ناديت بصوت واهن: يا اولاد.

لم يسأل عني أحد. أفقت وهم يتناولونني بأيديهم على خشبة الغُسل. كان جسدي طيعًا. استمتعت بالماء الدافيء والصابون المعطر. العطر الذى غمروا به الأغطية البيضاء

كان نفاذًا بأكثر من اللازم. ربما ظنوا أنه مناسب لوداع مهيب. هممت بالاعتراض على النوع؛ لكن شيئًا ما أسكتني. فقد ظننت أنهم لن يسمعوني.

بدأت أستوعب ما حدث. لاشك أنهم اكتشفوا وقوعي عند باب الغرفة ففحصوني وهم يتشككون، ثم تأكدوا عندما أتى ابني الطبيب.

من المؤكد أنه قال لهم وهو يدعك عينيه: البقاء لله.
سمعت حكايات ونوادر كثيرة عن ميتين. بعضهم كانوا يُبطئون فى الطريق إلى المثوى الأخير فيفسرها المتكلمون بأنهم خائفون من اللقاء.

وأخرون كانوا يهرولون حتى تنقطع أنفاس حاملي الخشبة.. فيتحدث المشيعون عن تلهف الميت على دخول الجنة التى رآها رأى العين. وبعضهم كان يتسمر فى الأرض كجحش حرون ممتنعًا عن الحركة..

فترتفع أصوات الناس: الله أكبر.. لا إله إلا الله.. ويحايلونه كطفل صغير رفض أن يمضي إلى حيث يعرف أنه سيأخذ حقنة تؤلمه. أرى مشهدي يمضي بهدوء ويسر. لابطء ولا سرعة ولاامتناع عن السير. الجو احتفالي بالدرجة الأولى.

أشعر بالامتنان لكل من شاركوا فى الحفل. تغاضيت بترفُّع عن الذين سمعتهم يلوكون سيرتي بألسنتهم المسنونة. لم أتوقف لتمحيصها. وتجاوزت عن أولئك الذين كانوا يتعجلون العودة بسرعة لتناول طعام الغداء الذى تأخر كثيرًا.

وابتسمت من بعض السائرين الذين كانوا مهمومين بإتمام موعد غرام بعد ربع العشاء الأول. ولم أوافق على مظاهر الحزن المبالغ فيها من بعض أولادي وأحفادي.

اقتربنا من الشارع الضيق الذى تقع فيه المقبرة فتذكرت نساءَ العائلة اللائى منعهن الرجال من مرافقة المشهد. تركت الرجال يتكدسون في الشارع الضيق وألقيت ببصري الحديد وسمعي الحاد

حيث النساء يتجمعن فى المنزل البعيد في أقصى شرق البلدة. المنظار القوي الذى يرافقني جعلني أرى النساء يتحلقن حول صوانى الغداء الفاخر يلتهمنه بشهية.

نسوة البيت يأكلن ببطء وتكاسل وعيونهن محمرة من أثر البكاء. وبعض النسوة يُصبرونهن ويحثونهن على إتيان الطعام: البطن لا تحزن. للنساء ثرثرة محببة وأنا على هذا البعد، أراقبهن بشغف. سنواتي التى جاوزت التسعين

لم تقضِ على جذوة الحنين لهن. يعجبنني فى أثواب الحداد السوداء. يختلط بياض بشرتهن بسواد العباءات الكاسية. لم أستطع منع عيني من تأمل ما ظهر من أذرعتهن البضة وسيقانهن المصبوبة بإتقان.

تأملت وجوههن فى شتى أحوالها. ورأيت وجوها لسيدات غاربات الجمال لم أرهن منذ زمن. وأرعشتني صبايا يتفجر الحسن والصبا والجمال من وجوههن الناضرة. أتتبع نظراتهن الحيرى  التى تفيض بالتوق والشوق والرغبة فى الاكتمال.

أحسست بخبطة خفيفة. رجعت فورُا إلى الشارع الضيق. رأيتهم يضعون الخشبة أمام الباب بالضبط. تهيأ الشباب لفتح الصندوق. صاح أكبر أبنائي: انتظروا قليلا.

اقرأوا الفاتحة أولا وادعوا بما تيسر. سكت الجمع وانهمكوا فى التمتمة بالفاتحة. شاركتهم القراءة. أشار ابنى لوجهاء العائلة ليستعدوا لتلقي العزاء.

ثم هتف باكيا: مع السلامة ياحاج. همهم الحاضرون جميعًا. لم أعرف ماذا يقولون. فجأة أحسست أن أيدى عملاقة تسحب الكاميرات والمعدات، وتفصل التوصيلات والقواطع والكشافات. سادَ صمتٌ موحش، وحلَّ ظلامٌ كاسح.

بقلم: محمود عرفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى