كتب حنان محمد
يا عسكرى
وصلت إلى عنوانه دون جهد، رأيته جالسا أمام منزله، وحيدا، يستروح نسمة مسائية، فكرت.. هل يتذكرنى؟ وكيف يكون استقباله لى؟ ولماذا تذكرته؟
هل لأنى سمعت صوته يطرق أذنى فى نهاية برنامج الأطفال؟ ياااااه.. بعد كل تلك السنين. لماذا تتعلق بعض الذكريات بشغاف القلب ولا تتبدد؟ تستكين فى خلايا الذاكرة أزمانا
ثم تنتفض فجأة دون أن نعى السبب، تنتصب واقفة فى غيطان الذاكرة المزدحمة، كأنها أعواد أذرة كانت غافية ثم استردت عافيتها.
كنت أجلس بجوار أمى وهى تنصت باهتمام لبرنامج “ربات البيوت”، ظننت أنها ستغلق الراديو فى نهاية البرنامج؛ لكنها ظلت تضع أذنها السليمة لصق السماعة؛
لتتابع برنامج الأطفال فى شغف، فاجأتنى الأغنية التى ختم بها البرنامج، أعادتنى خمسين عاما للوراء، عندما كان أمير يغنى بصوته الطفولى المتحمس:
يا عسكرى يا أبو بندقية.. يا زينة الأمة المصرية.. أنت قوى جبار.. ولا تهاب النار. شعرت بكيانى يهتز، نظرت إلى أمى؛ رأيت على وجهها ابتسامة حنين لذكرى قديمة،
أعادنى النشيد لذكريات الطفولة
أعادنى النشيد لذكريات الطفولة الدافئة، أكاد أرى أمير يشب على أطراف قدميه، يغنى بلثغته المميزة، بقوة لا تناسب طفولته، يدفع الحماسة فى قلوبنا الصغيرة والرعشة فى أبداننا النحيلة؛
فنخرج إلى الشارع، نردد نفس الأنشودة فى مظاهرة طفولية؛ فتهتز الحوائط كأنها تردد معنا. ظل أمير حلم الطفولة وبطلها، وظلت الأغنية تزين احتفالاتنا المدرسية،
حتى حدثت الهزيمة؛ فنسيناها ونسينا أمير. تم تجنيدى، فانتظمت مع زملائى فى معسكرات التدريب، نتجرع فنون القتال، وندور فى طاحونة الانضباط والتحضير للمعركة.
وجدت نفسى على شاطئ القناة،
بعد شهور؛ وجدت نفسى على شاطئ القناة، جنديا فى سرية استطلاع يقودها النقيب بنيامين، ويعاونه الضابط أمير، مزهوا بالنجمة التى تزين كتفه. ذات مساء مقمر قال لنا:
صرت ضابطا وأنا طفل. عاين الدهشة التى بدت على وجوهنا ثم أضاف:
فى حرب ستة وخمسين كنت فى الخامسة من عمرى، ألبسنى أبى ملابس ضابط وأخذنى إلى الإذاعة ، حفَّظونا أغنية “يا عسكرى يا أبو بندقية” ،
ثم اختارنى “بابا شارو” لأغنيها؛ أدركت يومها أننى سأصبح ضابطا. عندما أذيعت الأغنية أصبحت نجما فى الشارع والمدرسة.
سألته مترددا:
هل كنت متأكدا من قبولك فى الكلية الحربية؟
فقال متحيرا:
لا أعرف ماذا كان يحدث لو فشلت فى الالتحاق بها، الحمد لله على كل حال.
لاحظ تحفظى بالرغم من تبسطه معنا، فهمس لى:
انس عقدة مركز التدريب، هنا الجيش الحقيقى، جيش الحرب والتحرير.
تشجعت قليلا وسألته:
كنت تحلم بأن تكون ضابطا، لكن هل تصورت أن تحارب بجد؟
راحت عيناه إلى بعيد، ثم قال بعد لحظة صمت:
اقول لك الحق
أقول لك الحق، لم أتصور أن تكون الحرب بهذه الفظاعة، هى تجربة قاسية وقد تكون قاتلة.
سكت قليلا ثم قال بحزن:
إنه قدرنا.. إن لم نكن نحن فمن يكون؟
لمعت عيناه فجأة كأنه تذكر النشيد، ترددت الكلمات فى نفس اللحظة داخلى، بدأنا نرددها بصوت خافت، كان رقيب السرية على مقربة منا،
وجدناه يضبط الإيقاع
وجدناه يضبط الإيقاع بخبطات منتظمة من ملعقة فى يده على صحن صاج تحمله اليد الأخرى، أحسست بأن الهواء مشحون بتيار مضفور من الفرح والحزن فى آن،
كدت أنهار تحت وطأته، كأنه أدرك ما بى فتوقف فجأة ليغنى:
– حنحارب.. حنحارب.. كل الناس حتحارب.
شاركناه الغناء؛ ثم توقفنا فى نفس اللحظة، التفت أمير إلى الرقيب منبها وهو يبتسم قائلا:
– المهم أن نضبط الإيقاع مهما تغير اللحن.
فضحكنا لندارى أحاسيسنا التى كادت تفور.
فى اليوم الرابع؛ التاسع من أكتوبر،
كنا قرب خطوط العدو
كنا قرب خطوط العدو، نزحف بهدوء؛ ونوالى الإبلاغ عن حشود العدو، عندما انهمر الرصاص فجأة، ثم سقطت قذيفة بالقرب منا، احتمينا بالثنيات الأرضية حتى ساد الهدوء،
التفت فوجدت أمير يئن متوجعا، كان الدم يغطى وجهه وسترته ، لم أميز مكان الإصابة ، حقنته بالمورفين ثم حملته مع زميلى إلى أقرب نقطة آمنة، حيث نقل إلى المستشفى الميدانى.
كدت أتعثر فى ترددى، شئ ما يشدنى إلى الخلف.. وأشياء تدفعنى للأمام… كيف أبدأ معه؟ هل نستطيع التواصل؟ ماذا فعلت به الأيام؟
وكيف يحتمل تيار الشجن
وكيف يحتمل تيار الشجن عندما تفيض الذكريات؟ السكون الذى يفرش ملاءته على الشارع الخالى شجعنى على التقدم، اقتربت، لم ينتبه لى، على بعد خطوة واحدة منه توقفت،
ألقيت السلام؛ فلم أسمع صوتى، وجدتنى أدندن بصوت خافت: يا عسكرى يا أبو بندقية. جاوبنى على الفور دون أن يسأل من أكون: يا زينة الأمة المصرية. أكملنا معا المطلع؛
ثم أخذ يهز يديه كقائد فرقة موسيقية ويواصل الغناء، كأن الزمن ما زال متوقفا عند تلك اللحظة البعيدة، وكأن كل ما تلا ذلك لم يحدث؛ سبعة وستين، ورأس العش، حرب الاستنزاف ،
وحائط الصواريخ .
وحائط الصواريخ . العبور فى ستة أكتوبر، والثغرة. الكيلو مائة وواحد، ومعاهدة السلام. آآآه يا أمير.. أدينا اللحن بدقة، مع أن رقيب السرية لم يكن معنا ليضبط الإيقاع.
رأيت وجه أمير يشرق بفرح طفولى؛ وابتسامة كبيرة تنير ملامحه، وارتعاشة خفيفة تتردد على صفحة خده. بينما يداه تتحسسان الهواء، تتلمسان ذلك الذى أتى بعد كل هذه السنين ليغنى معه.