كتب حنان محمد
صاحب الكيس
جلستُ في أول مقعد خال، السيارة عالية، تبدو متسعة، شمس يونيو تقترب من الرؤوس، السقف الصاج كأنه سطح شواية نتقلب تحته، المساء يقترب ومازال الهواء محبوسًا في قمقم،
متى يطلع يا رب؟ فاز شيخ وقور بالمقعد الأمامي المريح. أربعة من الشباب جلسوا في المقعد الخلفي يتبادلون النكات بصوت منخفض، ويضحكون بأعلي صوت. أمامهم جلس أربعة نسوة على أرجلهن طفلين أحدهما يرضع من بزازة،
والثاني يرضع من ثدي أمه الذي تغطيه بطرحتها، وبضعة أكياس منبعجة بأغراض بلاستيكية تزحم المقعد العريض. جلستُ خلف السائق بجوار الشباك،
بينما جلس بجانبي ثلاثة رجال يرتدون جلابيب صوفية، وتعلو رؤوسهم لبد منتصبة بنية اللون. تعجبت كيف يحتملون الأثواب واللبد الصوفية في هذا اليوم الصيفي الناري،
فكرت أنهم ذاهبون لأداء واجب في دمنهور. اكتمل العدد فصحنا في السائق ليتحرك بهذا الفرن الملتهب، فأدار المحرك وتهيأ للانطلاق، استوقفه سائق بالموقف وهو يشير نحو رجل يأتي مسرعًا ويحمل على كتفه كيسًا كبيرًا من البلاستيك المضفور، كان الرجل يلهث والعرق ينز من جسده، قال السائق لزميله:
= خذه معك، رجل “غلبان” راجع من السوق.
ضغط السائق الفرملة بخفة فتوقفت السيارة لحظة، استحثه فيها بزهق:
= خلص.
بصعوبة استطاع الرجل أن يضع الكيس علي شبكة السيارة، حاول أن يربط الكيس بحبل من البلاستيك،
لكن الركاب تصايحوا متذمرين من وطأة الحر، فحرك السائق السيارة ببطء، لكن الرجل ظل متعلقًا بالشبكة ويحاول استكمال ربط الكيس وهو يدمدم:
= اصبروا يا جماعة، اعملوا معروف.
شعرت بالرثاء لمنظر الرجل الغارق في عرقه وتوتره، لكني التزمت الصمت، خفت أن يتحول غضبهم نحوي، ظل السائق يسير ببطء ليتيح للرجل إكمال ربط الكيس،
وليتق غضب الجالسين في الصهد. أخيرا وضع الرجل جسده على أرضية السيارة ثم أغلق الباب، وصاحت امرأة من الخلف: أف ف ف.. الجو نار. رد الشيخ الوقور، وهو يمسح العرق على جبهته:
= “قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون”.
قال الجالس بجواري بصوت هاديء:
= صدق الله العظيم.
أخذت السيارة سرعتها فانفتح القمقم وتحرك الهواء، التفت السائق إلى صاحب الكيس وأصدر قرارُا:
= الكيس عليه أجرة نفر.
لم يرد الرجل، لكنه أشاح بيده علامة الموافقة المتبرمة، وأخرج من جيبه أجرة نفرين دفعهما للسائق الذي أشار إليه ليجمع الأجرة من باقي الركاب.
وضع السائق الأجرة في جيبه وطار بالسيارة. توقف لينزل الشيخ الوقور في منتصف المسافة، فانحبس الهواء ثانية وتململ الجميع. نزل الشيخ فانطلق السائق ثانية.
سرى الهواء فسرت الراحة.
اقتربنا من الطريق الفرعي الداخل إلى دمنهور، فانتبهنا إلى حركة غير عادية على الطريق. كانت السيارات تقترب وتطلق أصوات التنبيه ثم تبتعد.
بعد لحظة اقتربت سيارة حتى حاذتنا وأشار سائقها إلى الخلف. أدرك السائق وصاحب الكيس في لحظة واحدة أن الكيس وقع من شبكة السيارة. هدَّا السائق من سرعته ثم توقف إلى جانب الطريق.
نزل صاحب الكيس يجري إلى الخلف. لم يكلف السائق خاطره أن يقرب المسافة عليه. سكنت السيارة فسكن الهواء، ثقل وكاد يحترق. قالت المرأة التي ترضع وليدها:
= الهدمة كأنها نار تحرقني.
كأن الرضيع انتبه لكلام أمه فترك ثديها وأخذ يرفس برجليه وهو يبكي. الشباب ظلوا يتهامسون ويضحكون بصوت عال كأنهم خارج حدود السيارة والنهار،
والنسوة الأربع يتأففن من الصهد الذي يذيب الأبدان عرقًا، بكاء الطفلين معًا زادهن توترًا وغيظًا، فأخذت كل واحدة تقول للسائق كلمة:
= اطلع يا اسطى.
= حرام عليك العيال يفطسوا من الحر.
= يعجبك كده؟
= خلاص.. استحميت بالعرق.
السائق متوتر أكثر من الركاب، الحر يعرفه كل يوم،
لكن الدور لو ضاع تبقى مصيبة، ألقى برأسه على طارة القيادة، وافتعل الصبر. قال الرجل الجالس بجواري وهو يلوي عنقه:
= وراءنا موعد.
قلت محاذرًا:
= الصبر طيب يا جماعة.
رد الرجل الآخر:
= الصبر له أصول، صاحب الكيس راكب زيادة، ولم يربط الكيس جيدًا، ذنبه على جنبه.
قال الرجل الجالس على طرف المقعد بجوار الباب، موجهًا حديثه كلامه للسائق:
= لو رجعت بالسيارة للخلف كان الموضوع خلص.
زفر السائق متبرمًا وهو يقول:
= الرجوع للوراء على السريع مخالفة.
أدرتُ وجهي، نظرت من الزجاج الخلفي، كان صاحب الكيس يجري في الاتجاه العكسي، تفصله عن هدفه مسافة كبيرة،
لمحت الشباب في المقعد الخلفي لا يعيرون للأمر انتباهُا. الطفلان يبكيان، وملامح النسوة تشي بغضب ممرور، الرجال الثلاثة في لبدهم المنتصبة على رؤوسهم يستحثون السائق على السير،
وأنا موزع مغتاظ، لا أستطيع أن أتخذ موقفًا، فكرت لو أن الشيخ الوقور لم ينزل في الطريق، كيف يتصرف، شممت في الهواء الساكن الثقيل المحترق رائحة غريبة،
كدت أنسحب من لساني لأقول للسائق، انتظر لحظة، تراجعت، لكني وجدته يحل فرامل اليد ويهم بالحركة صحتُ فيه آمرًا:
= نزلني أساعد الرجل الغلبان، إياك تمشي.
استسلم السائق لطلبي، ووضع يديه على عجلة القيادة باستهتار وقال بصبر نافد:
= انزل يا سيدي.
فتحت الباب ونزلت، استقبلت الفضاء الملتهب، ونظرت نحو الرجل الذي يحمل الكيس ويجري في اتجاهي،
هممت بالانطلاق نحوه فرأيته يهبد الكيس على الأرض وينهد جالسًا فوقه، ينظر إلى بعيد، دون أن ألتفت أدركت أن السيارة تغيب في المنحنى الداخل إلى المدينة، واصلت السير نحو الرجل، دون كلمة أفسح لي مكانًا على الكيس لأجلس بجواره.