رؤية / أحمد إبراهيم عيد
بعد المتابعة الأولية للديوان ، وإعادة النظر برؤية ٍ تأملية لنصوصه ، نرى أن هناك تفاعلات ديناميكية وجدانية وفكرية متواترة على مدار نصوصه التى بلغت ثلاثا ً وخمسين نصا ً شعريا ً
قد حُمِّلت جميعها بتنويعات ٍ متفاوتة من المعانى والأمانى للذات الشاعرة الضاربة بدفقاتها الشعرية فى آفاق الوجد والشوق والمكابدة ، مع ما تعاينه أيضا ً من تباريح الأسى والشجن من ناحية ، والأمل القوى والاستشراف التفاؤلى من ناحية ٍ أخرى ، على المستويين ( الخاص ، والعام ) .
ومن اللافت للنظر على المستوى التشكيلى ( الأسلوبى والمنهجى ) أن الخطاب الشعرى يرتكز فى فضاءاته على صوت الذات الشاعرة المتنامي والمتواتر ما بين شتى الأغراض الشعرية فى تواصل ٍ مستمر ( تفاعليا ً ) مع الآخر ، على مستويات ٍ متباينة ،
بداية ً من تصوير العلاقات الوجدانية الخاصة ، واستمرارا ً بالتماهى الشعرى الإنسانى التوصيفى على الصعيدين العام والخاص مع شخوص كثيرة متباينة ، وانتهاء ً بهذه النيرفانا العلوية الصاعدة إلى آفاق العشق العلوى الخاص بسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ، والوصول إلى مناجاة الذات العلية ،
فى بعض القصائد ، التى تكاد أن تكوِّن حلقة شعرية هى أقرب ما تكون للمساجلات أحادية الجانب من النصوص الشعرية التى تنحو للارتقاءات الصوفية …….
وعلى ما يبدو – من ظاهر النصوص – أن الضمير الشعرى الأنثوى قد عانى من المكابدات والاضطرابات الحسية والمعنوية ، مما جعله يلجأ إلى آفاق الصمت الخاصة ، ليتفيأ ظلالها طويلا ً ، فى تأملات ٍ خاصة ،
مستعذبا ً لآلامه وأحلامه ، فى تجاربه الشعورية الخاصة ، وإذا به ينتجها ويصوغها شعرا ً مسترسلا ً مستفيضا ً ، فهاهى الشاعرة تفتتح قصيدتها ” فى أفياء الصمت ” مصورة ً ومستلهمة ً لحال ٍ تقصده :
” مازال فى حلمه يستعذب الوجدا *** يروم من سادر ٍ فى صمته .. الردا “
وظاهرة الاسترسال والاستطراد فى سياق النصوص لدى الشاعرة واضحة وتتنامي لدرجة أنها تتنافى مع ، بل وتعادى تقنية التكثيف الشعرى ، وهذه الظاهرة يستشعرها كل من يتلقى النصوص سماعيا ً أو قراءة ً ، بل وتستشعرها أيضا ً الشاعرة ذاتها ،
وتقر بذلك فى نصوصها ، حيث تقول فى نصها ” على صورة جياع ” :
” سيل الترادف محنة ٌ كبرى .. وما *** لفظ ٌ وحيد ٌ شارحى ومترجمى
وبرغم كل فصاحتى .. الإسهاب من *** طبعى .. بصمتى أو بحين تكلُّمى ”
واستعذاب الحالين ( الوجد ، والجوى ) من الظواهر الأسلوبية الشعرية عبر قصائد الديوان ، بل إننا فى مقاربة ٍ تأملية رصدنا فى فضاءات النصوص ، هذه الحقول الدلالية للمعانى المتواترة وجدانيا ً
من : تمرد ٍ وعتاب ، ولوم ٍ وإدانة ، وشوق ٍ وافتقاد ، وشجن ٍ وحنين ، وسوء ظن ٍ وتباريح … إلخ.. ولكننا فى رصد ٍ إحصائى عبر النصوص ، نجد أنه قد ترددت بصورة ٍ متواترة بل وشديدة التواتر ، مفردتى ( الوجد و الجوى ) وكأنهما فى سباق ٍ وجدانى ، تحتشد به النصوص فى متونها ،
وهذا السباق بين المفردتين صراحة ً ، فضلا عن تضمين معانيهما فى مواطن كثيرة ، يتجلى فى استطراد ٍ مستمر وكأنه سباق ٌ محموم بين المفردتين ،
حتى إذا بلغا نصا ً بعنوان ” نداء الروح ” كانت لمفردة ” الوجد ” الغلبة بتكرارها عبر النصوص ( ٩ ) مرات ، مقابل ” الجوى ” فقط ( ٧ ) مرات ، فإذا بمفردة ” الجوى ” فى النص التالى ” إلى قيس ” تسابق ” الوجد ” لتحقق التعادل معه ( ٩ : ٩ ) مرات ، ثم إذا بهما معا ً يتعادلان مرة ً أخرى فى ذات القصيدة ( ١٠: ١٠ ) ، حينما تقول الشاعرة :
” وتقول ُ : ما أحلى التقارب *** ثانيا ً من بعد عاشر
ويفيض شعرك بالجوى *** والشعر للوجدان ِ آسر ”
ومن بداية الديوان إلى نهايته نعاين هذا السباق الوجدانى العرفانى بين الجوى والوجد ، فإذا بنا فى نص ” مجاذيب ” نراهما أيضا ً فى بيتين متتاليين :
” تدور بنا النَّوات تستنزف الجوى *** ويرميه إعصار ٌ من الوهم يعصفُ
أطوف بما خطَّت قناديل ُ وجدهِ *** أرانى .. ولكن دون شخص ٍ يُوصِّفُ ”
والديوان يبحر من بداياته لنهاياته فى تلكم الأجواء الوجدانية والعرفانية بكل تقلباتها ، بداية ً من ذلكم الإهداء الذى يتماهى لغويا ً مع العنوان العام للديوان ، ويتماهى فنيا ً وأسلوبيا ً مع الإيحاءات والدلالات الواردة فى سياقات النصوص ، فيُفتتح الأهداء هكذا :
” سادرا ً فى درب غيِّه … يغزل الصمت وشاحا
ليوارى سوأة العشـق التى .. فاضت جراحا ”
ثم تبدأ أولى النصوص بهذه العنونة الإشارية ، ذات الدلالة العرفانية الواضحة ” صلاة ُ وجد ” وتُستهَل القصيدة :
” لى فى الصَّفاء تباريح ٌ تَعلِّيه ِ *** لسدرتى .. فإذا آنست ُ.. أدنيه ِ
ومنذ قلبى اصطفاه مُلهمى وأنا *** عرشى على ماء ِ وجد ٍ مُبحر ٍ فيه ِ”
ولا تكتفى الشاعرة بالإيحاءات الدالة على تراسل الحواس المعنوى ، حيث تلمع عينا المحبوب فى أفق الشاعرة ، ولكنها فى تبادل ٍ نورانى تعانق مقلتاها مقلتى ّ ذلكم المحبوب ، ثم ترتل أحرفها وصفا ً تياها ً لجماله وحسنه ،
ثم تطالبه برىٍّ يقينىّ يسعى رويدا ً رويدا ً نحو مهجتها ، لتكتمل فى فضاءات النص هذه الدلالات والإيحاءات المُموْسقة على تلكم الأرجوزة الشعرية المنتهية بقافية الهاء المُشْبَعة ، لتحقق للمتلقى هذا الإشباع الذهنى النورانى إذ تقول :
” أنثى من النور ِ لا ظن ٌّ يباغتها *** فى من تحب ُّ .. ولا بَيْن ٌ سيطفيه ِ
فودِّع الظن َّ إثما ًيعتريك .. ولُذ ْ *** بحضن عشقى.. واسجد حين تأتيه ِ”
مَردُّ الهاء المُشبعة هنا للنور الأنثوى .. ليتحقق معنى الالتفات المعنوى والبلاغى ، ليصير النور هو الأنثى الشاعرة ، وتصير الأنثى هى النور ، لننطلق مع النصوص مستشرفين لحالة ٍ من هذا النُّسك الشعرى الذى ربما سيختلف بطبيعة الحال بعد ذلك .
ولأن ما يُتحصَّل فى المجالات العليا الوجدانية ، لا يتسلسل دائما ً فى المجالات الأدنى ، ولأن التجاور ما بين المتناقضات يتحقق فى مجالات السنن القولية والفعلية ، إلى جانب السنن الكونية ،
فإننا نعاين فى هذه الأشعار هذا التجاور ما بين النيرفانا بشقيها ( اللذة و الألم ) ، والرومانتيكية القائمة على التفاعلات الوجدانية ، هذا إلى جوار ما يُسمى بـ” السنتمنتالية ” المرتكزة على الفردية البحتة ، بملابسات تحققها مجتمعيا ً، وذلك فى قصيدة ” ضياع حلم ” الراصدة لظاهرة أطفال الشوارع ، حيث تقول الشاعرة فى إيحاء ٍ دال لحال لهؤلاء الأطفال :
” لا أم .. لا أب .. لا حنان .. فكيف للط *** فل البئيس يرى. صفا ً وسلاما ”
ثم تتابع توصيفاتها المؤلمة المرتكزة على تفعيل المفارقات المعنوية .. فتقول :
” أمِن َ العراءَ وصاحب الوحش .. اصطفى *** صلد الصخور ِ معيشة ً ومناما
ما خاف َ وحشا ً جائعا ً .. يرنو له *** فعسى يكون بأكله ِ .. مِرحاما ”
هذه الإيحاءات المُصوِّرة شعريا ً لهذه الحقول الدلالية المؤلمة التى تدور فى عالم المهمشين من أطفال الشوارع ، تؤثر فى المتلقى أيَّما تأثير ، ولكن الشاعرة تنزع بعد ذلك إلى التقريرية المعلومة سلفا ً من آثار التوصيفات سالفة الذكر ، المنافية لطبيعة الطفولة وأهميتها :
” طفل ٌ هو المستقبل الآتى .. على *** أكتافه ِ تُلقى الحياة ُ.. جِساما
طفل ٌ هو البانى صروح بلاده ِ *** بطموحهِ.. وبعزمه ِ.. مِقداما ”
وبرأيى .. أن السبب لتواتر هذه التقريرية التى هى – بشكل ما – ضد الشاعرية ، أنها قادت الخطاب الشعرى ، لتدق به الذات الشاعرة جرس الإنذار النهائى فى هذه القضية فى ختام قصيدتها :
” إن كان بالحرمان يحيا يومه ُ *** فغدا ً .. سيسقى للبلاد حِماما ”
وإلى جانب تنوُّع الطرح الموضوعى فى الخطاب الشعرى عبر النصوص ، تنطلق الذات الشاعرة -غالبا ً- من الإبحار فى أعماقها الداخلية ، مهدهدة ً لذاتها ، فى تأمل ٍ باطنى ، ومؤكدة ً على أن الشعر فى تجلياته الأولية يعمل على إزاحة الهموم والأسى من الذات ،
مُحدثا ً تلكم الحالة المنشودة من التوازن النفسى والتى تؤهل فكر ووجدان الشاعر لاستجلاب لحظات السكينة والهدوء الذاتى ،عبر التأمل الهادئ لآفاق الرؤى الشجنية ، ولا أدل على ذلك من هذا النص المُطوَّل بلاغيا ً وتأمليا ً، وقد أسمته الشاعرة ” عربدة الظنون ”
والذى افتتحته بالواو الاستئنافية الدالة على استمرارية وتلازمية الطرح الشعرى الشجنى المتنامي من حال ٍ سابق إلى حال التسجيل اللاحق شعريا ً مع بدايات النص :
” وأضحك.. والأسى يرعى الحنايا *** لأُخفى ما تكدس من بلايا ”
وينطلق النص الذى تخطَّى حاجز الخمسين بيتا ، كاشفا ً للأشجان والآلام ، ومتفاعلا ً فى ذات الوقت مع العناصر الكونية الشفيفة الرهيفة الحانية ، ومُكَفكِفا ً لدموع الأحلام المُهدرة ، ومُوقنا ً أن روح القصيد الشعرى هى الأقوى والأكثر تأثيرا ً فى حالات المواساة الداخلية
من الذات للذات ، لتبقى لدينا هذه القناعة – كمُتلقين للشعر – أن الأشعار الصافية الصادقة هى بمثابة علاج ٌ روحانى هام وحاسم لكثير من حالات الأسى والهموم :
” وكم للشعر فى الأسحار أنس ٌ *** يواسى للجراح .. وللضحايا ”
وفى البوح الشفيف أرى التجلى *** لآيات ٍ تعربد فى الحنايا
وفى الصمت العميق دواء روح ٍ *** وإن ظهرت به بعض الخفايا ”
(( ربما من هنا جاءت – وبشدة هذه التفاعلات الوجدانية – لعـنوان الديوان ))
وإذا ارتحلنا إلى بعض النصوص التى خرجت عن النسق العام العمودى – الغالب على الديوان – إلى أجواء النصوص التى آثرت الشاعرة أن تسجل دفقاتها الشعرية على نسق السطر الشعرى ،
سنجد أن لها سمة الدراما الشعرية القائمة على الألاعيب الفنية فى سياقات السرد الشعرى المرتكزة على التوصيفات الواردة على لسان الشاعرة الأنثى فى صورة تجليات التشكيلات الأنثوية الشعرية الواردة على سبيل المثال فى قصيدة
” التدلِّى .. للأعلى ” ، هذه القصيدة القناع التى يتقنَّع فيها صوت الشاعرة ( عكسيا ً ) مُتقمصا ً لبعض الشخصيات النسائية التاريخية ، التى تحملها تلك القرائن اللفظية المذكورة صراحة ً أو ضمنيا ً ، بداية ً من ” سالومى ” .. ومرورا ً ب ” ليلى العامرية ” .. و” ولَّادة ” و ” هند ” … وغيرهنّ .. وانتهاء ً بصور لبعض الشخصيات النسائية المعاصرة ، مع تشابكات ذلك بالدراما الشعرية المُصوِّرة للواقع .
والشاعرة بذلك تتخفف من النزعة الذاتية ، وتحقق نقلة ً نوعية فى ديوانها ، بالانتقال من إيقاعات الغنائية المنفردة ، إلى إيقاع الدراما الشعرية المتكئة على رؤيتها للصراع النفسى العاطفى والمجتمعى بإسقاطاته المختلفة .
وهنا تجدُر الإشارة إلى أنه من أشهر المعاصرين الذين تفاعلوا مع قصيدة القناع ، كنهج ٍ شعرى ، الراحل الكبير / عبد الوهاب البياتي.
وتنطلق الشاعرة فى قصيدها المتنامي عبر (١٢٢) سطرا ً شعريا ً ، فى إيحاءات ودلالات متداخلة وجدانيا ً ورؤيويا ً ، حيث تفتتح نصها هكذا :
” فى صدرها قطب ٌ يدور به الهوى
متناغما ً مع همس آهاتي بحين ٍ
ثم حينا ً لا أحيط ُ بكنهه ، مثل السديم
وكنجمة ٍ زرقاء ترسم ُ وجهها
فى سفح آمالى ضُحى ً
ومع الليالى تطحن السلوان فى أكبادنا
كرحى ً قديم
وتبيت ُ ساهرة ً على شفتى
تنوء ُ بضحكتى فى نظرة ٍ نشوى تداعت ْ
من رُبى قلب ٍ زنيم ”
والتداعى الحر الذى هو سمة ٌ بارزة فى هذا النص ، يتحدد فى مسارات تيار الوعى الفكرى لدى الذات الشاعرة والذى ينتمى بشكل ٍ ما لتيار البند العراقى المرتكز على تواتر أسلوبية السرد الشعرى الحر :
” وأنا فؤادى كم تصحَّر َ
من حكايات العذارى العاشقات ِ
ورافعٌ راياتِه ومناصر ٌ ثوراتِهن َّ
بساحة النكسات ِ والخُلع ِ الأليم ”
ومع الجرْس الموسيقى التفعيلي المُحقق لتتابع الصور الحسية والذهنية ، تأتى خاصية تواتر القافية الميمية المسبوقة بياء المد بين المقاطع ، طالت أم قصُرت ، لتحقق صورة ً للدراما الشعرية المتتابعة فى السياق التصاعدى ،
إلى أن نصل إلى الموقف الشعرى الذى يُقيِّم ويُؤطر رؤية الذات المهيمنة والمتماهية عبر التداعيات الأنثوية المتباينة ، خاصة ً فى هذا المقطع الشعرى :
” ويضيق جَفناىَ بضحك تهكمى
ويذوب فى اللاوعى ما تُوحى به نظراتها :
أنا لست ( سالومية ) العهد القديم
إنى كهمس النخل ِ للنهر ِ
اصطفتنى الريح ُ كى أهديه ِ
فى يوم الهجير ِ سعادة ً تُغرى عذوبتَه ُ
فيحتضن النسيم
إنى أنا الأنثى وفى أحشائىَ ضلع ٌ آدمىٌّ كان مُعوجّا ً
ولكن ْ عَلَّلَته ُ مفاتنى فغدا قويمْ ”
)) ما أروع ذلكم التعبير النسوى عن الاعتدال القويم ))
وتستمر الرؤية المُقنَّعة للشاعرة ، إلى أن تأتى بداية التحوّل إلى القافية الرائية المُجلْجلة ، التى اختارتها لتلائم ذلكم التحوّل قبل الأخير فى الدراما الشعرية ، حيث تقول :
” صوتى عَلا بمنابرِ الأطهار ِ حينا ً من دهور
كرسولة ٍ بالهَدْى جئت ُ .. فشوهوه ُ وكبلوه
وبنوا عليه ِ
بحجرتى الحمراء َ كم سور ٍ وسور ْ
هو نفس صوتى يهمس الآن بماخور القذارة ِ
أجمل الأصوات ِ.. بلْ وصداه ُ
فى كاساتهم خمر ٌ يدور ”
ثم ومع النهايات يأتى اللجوء إلى القافية البائية الساكنة بوقعها ، الذى أعتبره – برؤيتى الخاصة – بداية النهاية التعسفية لهذه الدراما الشعرية ، التى كان من الممكن – رغم طول النص –
أن تتواصل ملحميا ً فى دراما شعرية مُطوَّلة ، ولكن المشاهد المتتالية فى القصيدة القناع لم تتماسّ إلا فى لمحات ٍ سريعة مع قصة يوسف عليه السلام ، أو مع التراث العربى الخاص بالمعشوقات الشهيرات ، أو مع ” سالومى ” الشهيرة فى التراث المسيحى بقصتها مع ” يحيا ” أو ” يوحنا المعمدان ” ، الذى أطلَّ برأسه ِ فى ختام القصيدة ، فى مشهد ٍ كان يجب استثماره ِ إيحائيا ً ودلاليا ً:
” لكنما الهم الكبير وجرح قلبى
أن يولِّى الوجه عنى مُعرضا
ويعفُّ عنى مُبغضا ً مُتمنيا ً أنى أتوبُ
وياله ُ إن لم أتبْ
وأنا الذى لا زلتُ أحضن رأسه ُ
وأصون يومَ دفاعه ِ عنى بآلاف الكتبْ
لا زلت أدعوهم بألا يُلصقوا بىَ ذنب أمى
أو يُحلُّوا الرجم لى..
أو يذبحونى ذات يوم ٍ من رجب … !!! ”
ولكن .. ولأن البلاغة واللغة الجزلة المعبرة تنسرب من أعطاف الشاعرة بغزارة ، وتنداح القصيدة العمودية تحديدا ً منها كأعواد البَخور الطيبة ، محمَّلة ً بإرهاصات تجاربها الخاصة والعامة
، ها نحن نعود مرغمين إلى التفاعل مع طبيعة ( الغنائية الشعرية ) المسيطرة على معظم النصوص البيتية ، على اختلاف معالجاتها الوجدانية ، ولكن دعونا نتأمل قليلا ً فى منهجية التقسيم للقصائد الطوال ، فالقصيدة الماضية ( الأطول تفعيليا ً ) قُسِّمت بالقوافى ، والقصيدة التى معنا الآن ” إنى مَللت ُ ” الأطول عموديا ً ( ٦٠ بيتا ً ) ، قد قُسِّمت فنيا ً إلى مقاطع للتيسير على المتلقى ، وبدأ مقطعها الأول هكذا :
” لا تسقنى كأس الملام ِ زلالا *** فلقد سئمت ُ اللوم عمرا ً طالا ”
وتمضى الأبيات فى إيحاءات ٍ دالة على التمرد الوجدانى إلى أن تقول الشاعرة :
” أنا طفلة ٌ .. وكما تقول : كبيرة ً *** لكنَّ .. لى نحو العلاء ِ كمالا
وبىَ العواطف لم يزلن َ روابيا ً *** خضراء َ بالعقل ِ ازدهيْن َ جمالا ”
وهذه الدفقة الشاعرية تمثٌِل تجسيدا ً واعيا ً لمعنى ( طفل المعانى ) الذى أشار إليه العلَّامة / عبد القادر الجيلاني فى كتابه الماتع ” سر الأسرار ومظهر الأنوار فيما يحتاج إليه الأبرار ” والذى نوَّه فيه إلى تطهُّر الذات من الآفات التى تقود دائما ً إلى تفسُّخ العلاقات الحميمية .
وفى المقطع الثانى ، وعلى الرغم من صخب المشاعر الذاتية المصاحبة لعناد الحبيب وهجره ، ومع التوصيفات المتواترة لموقف الذات من هذا الهجر وذلكم العناد ، إلا أن الصياغة الشعرية تتحول فى سياق الانتصار للذات ، إلى الخطاب للآخر العنيد المكابر ، والذى صاغته الشاعرة بقدرتها على الطرافة الحادة الممزوجة بالسخرية المريرة التى تخفف من وطأة المشاعر ، وتحدد فى ذات الوقت موقفا ً شعريا ً صارما ً للذات :
” لا .. يا خفيف الظل…
لستُ أنا التى *** لك تستميل ُ.. ولم تكن ميَّالا
زِد ْ مثلما شئت افتعالات النَّوى *** إنى مللت ُ الأسر .. والأغلالا ”
غير أننا نرى أن الشاعرة فى معظم حالاتها الشعرية تحتكم إلى غواية الشاعرية لديها ( بلاغيا ً و لغويا ً ) لتحقق لذاتها قدرا ً أعلى فى مواجهة الآخر ، خاصة ً فى المقطع الثالث الذى ارتكز على خطاب الذات لذاتها ، فى مونولوج ً داخلى ، وبه بعض المبالغات الموضوعية ، التى جاءت على حساب الانضباط للسياق المعنوى مع سياق الخطاب الذاتى ، حينما تقول :
” ما كنت ُ غير الحرة الرأى التى *** نَشَّأتُ بسديد الرؤى.. أجيالا
عقلى على قلبى داوما ً.. حاكم ٌ *** ما كان ضِليلا ً .. ولا مضلالا ”
ويستمر ُ هذا النهج الشعرى فى مدح الذات ، وبه شئ ٌ ما من العُجْب ِ الزائد الذى لا يتناسب وجدانيا ً مع سياق الطرح الشعرى الذى عنونت له بعنوان فرعى للقصيدة.. ” مقاطع من لحن الوداع ” .. وأيَّا كانت الدوافع لذلكم العُجب الذاتى ، فإن ذلك يُعد من قبيل التفاخر الزائد عن حدود الموضوعية الشعرية حيث أن صوت الشاعرة صار هو المسيطر وهو الأعلى عن صوت الذات الواجدة أيَّا كانت حالات هذا الوجد :
” ومسيرتى بالعلم .. والشعر الرصيـ *** ـنِ ِ…
مَحجة ٌ أقوالها.. أفعالا
وإذا أنا جاريت ُ دربك ساعة ً *** فهَوَى خيال ٍ يستدرُّ خيالا ”
ونحن نرصد ُ ذلك من قبيل الموضوعية المُبتغاة للقصيدة الشعرية التى من المُفترض أن تأتى لغتها الفنية كساعى البريد الذى يحمل الرسائل لمتلقيها ، ثم يمضى خفيفا ً لتحقق القصيدة ذلكم المعيار الكيميائى النوعى ، فتصبح للنص الشعرى حيويته الدافقة الموحية ، لا حياته اللغوية والبلاغية فقط .
ونحن هنا لا نُدين التفاخر الذاتى المشروع الذى هو سمة بارزة بالديوان ، ولكننا نبحث ُ عن التفاعلية الحيوية المعنوية المرتكزة على حياة النص بأدواته الشعرية الأصيلة كاستخدام فنيات الوزن والقافية لصالح المعنى المطروح ، كما ورد َ فى نص راق ٍ ” كـ ( ميسون ) .. ” القائم أيضا ً على ذات النهج من التفاخر الذاتى :
” أيا صحبة الشعر ِ : من فتَّشوا *** وللرمل ِ عن سيرتى وشوشوا
ألا أبلغوهم : طريقى عسير ٌ *** ولكن بورد ِ المُنى .. يُفرش ُ”
والملحظ الفنى هنا هو استخدام الشاعرة لبحر ( المتقارب ) بطبيعته المتقافزة بتوالى أوتاده وأسبابه ، مع استخدامها للقافية الشينية المُشْبعة بالواو الممدودة ، وذلك لإحداث الجرس الموسيقى ّ واللفظى المتناسب مع الجو النفسى ّ العام ، مع انخراط الشاعرة – بعد موقف ٍ ما – بلغتها الساخرة المعبِّرة والمنتقدة للآخر ، فى حالة ٍ من حالات الانتصار للذات :
” وثوبى بعفته ِ.. آى حسنى *** تفوق ثيابا ً لهم .. زركشوا
وحسبى … حصيرى نظيف ٌ طهور ٌ *** بعين العلاء ِ أنا أفرُش ُ
وعـزة نفـسى تُـزيِّن طـبعى *** تعاف ُ كنوزا ً بها بقششوا ”
هنا.. نحيى الشاعرة على هذا النص المتدفق من أوله لآخره ، فى حيوية ً شاعرية تستحوذ تماما ً على فكر ووجدان المتلقى وتشبع ذائقته بهذا الوهج الشعرى الماتع والذى يحقق نوعا ً ما من الكاريزما الإبداعية المتميزة لدى الشـاعرة ، بمعنى تغـلغـل الحضور الطاغى لمقتضيات المعنى وتأثيره على الوجدان حتى من قبل إعمال العقل والفكر .
والشـاعرة لم تتفـيَّـأ ظـلال صمتها الإنسانى لتُسطِّر فقط نصـوصا ً عن ذاتها وتجاربها الإنسانية فحسب ، ولكنها فى بعض قصائدها ( عروبية المنزع ) والتوجُّه الشعرى ، وتمثِّل ذلك التوجُّه هذه الحلقة الشعرية المتمثلة فى أربع نصوص متتالية هى : ” قلبى مع حملة خيام ٍ وآلام ” و ” مُشــاطـرة ” و ” رســالة حـب ” و ” شـهيـدة الحـق والحـقيـقة ”
ومن تجليات ( طفل المعانى ) لدى الذات الشاعرة ، أنها فى رصدها العام للمشهد العربى المتردى والواقع فى أسر الحروب والفتن الداخلية والخارجية ، التى تفتك بالأبرياء ، ومع تجسيدها للآلام والأوجاع الشاهقة التى يتعرض لها هؤلاء ، إلا أنها ركزت انفعالاتها مع الطفولة المشرَّدة والمُدمَّرة ، بتسجيلها للمفارقات المشهدية – بتأثير الحروب الدائرة – حيث تنمحى وتتبدد مظاهر الطفولة الناعمة المشرقة…
ونص ” قلبى مع ” يرصد حال أطفال ( سورية ) سابقا ً و أطفال ( غزة ) حاليا ً.. فى تصوير ٍ مشهدى ٍ يفطر القلب والعقل معا ً :
” أطفالُنا فى خيام اللاجئين بدَوا *** كما الشيوخ ِ بثوب العجز ِ قد دخلوا
كأنما وُلِـدوا للبرد ِ يأكلهم *** وللثـلوج تغـطـيهـم .. وتـشـتـمل ُ”
وتتراوح رؤية الشاعرة البانورامية ما بين مناجاتها الشعرية لمقدساتنا الأسيرة فى أيدى الصهاينة ، وما بين الإشارات الهامة لاستمرارية التآمر الدُوَلى على مكتسبات ومصادر الثروات فى بلادنا ، وتركز من الإشارات الدينية والاقتصادية ، مُنوِّهة ً فى موقفها الشعرى الواضح لإدانة من يتخاذل عن نصرة ( الأقصى ) قضية القضايا على مدار الصراع العربي الإسرائيلي ، كل ذلك فى قصيدتها ” مشاطرة ” الكاشفة لأبعاد هذه التآمرات ، وذلك فى إطار مناجاتها للأقصى الشريف :
” يا من لـ ( أحمد ) كُنت مسرى عِزة ٍ *** نحـو الســماء ِ .. وللتجلِّـى معـبَـره ْ
أيدى اليهود ِ لطـُهـر أرضك دنَّـسوا *** طمسوا صـبـاح َ الأمن ِ فيك َ وأعصـره
وبـ ( صفقة القرن ) اللعينة دبـروا *** باللـيـل ِ أمرا ً شـائنا ً.. ما أقـذره ”
ومن التنويعات الإيحائية الدالة فى نصوص الديوان ، هذه الإشارة الهامة إلى أن الحروب ( قديمها وحديثها ) ترتكز على المعنويات القائمة على تبادلية المحاربين لأخبار المعارك وتفصيلاتها ، خاصة ً فى الأجيال الحالية من الحروب الحديثة ، التى تؤثر فيها وبشدة التغـطية الإعلامية ، ونحن نعاين الآن استهداف الأعداء الصهاينة وبقوة للصحفيين والمراسلين الحربيين ، حيث سجلت الشاعرة ذلك فى نصها ” شهيدة الحق والحقيقة ” / شيرين أبو عاقلة ، التى اغتالها جيش الصهاينة بدم بارد :
شهيدة الحق يا ( شيرين ) فى زمن ٍ. *** يغيب الحق .. والإنصاف بهتان ُ
تحية للشاعرة على هذه اللفتة الهامة ، ونرجو لها دوام الرقى الإبداعى فى مختلف التفاعلات من خلال الأغراض الشعرية المتنوعة .