طُرق الباب…
بداية القصة:
فتحت الخادمة، فإذا بالسيدة “عنايات” ؛جاءتنا بدعوة لحضور عقد قران ابنتها الخميس المُقِبل .
إستقبلتها أنا وأمى بكل ترحاب وتهانى يمكن أن تُقال حينها؛ أصرت على عدم الولوج لإنشغالها بدعوة الأحباب وتجهيزات العرس .
لم تتوانى للحظة عن الدعاء لى بأن يرزقنى الله بإبن الحلال ، كررتها عشرات المرات فى أقل من دقيقتين، وهى لا تدرى بأنها تمزقنى بسكين غير حاد .
لم أواجه سيل الدعوات إلا ببسمة تزاحمها غُصة بالقلب تحمل آلاماً كالآم اللاجئين حين يتذكرون أوطانهم .
الذهاب الى عقد القران:
لبينا الدعوة، وخرجت فى زينتى ووقارى المعهود، لكن نظرات الحاضرين كانت تحاصرنى كحصار أسود بغابةٍ لفريستهم !!
امتزجت الوجوه والملامح بالأضواء والزينات، وتعانقت البسمات، والمجاملات الغير صادقة.
ههنا، لكن شروداً تاماً تملكنى، احكم قبضته على؛ طوقت الأحزان عينى تنقش دروباً من الألم، وعثرات تليها عثرات تُثقل خطوات الفرح إلى قلبى.
وتساؤلات يتلوها القلب النابض بالأحزان وأنا أرى بنات الجيران، والأقارب، والصديقات، كلُ يُزف إلى بيت عُرِسه.
فأتساءل أو لا يأتى هذا اليوم بعد ؟! أينقصنى شيء مما فيهن ؟! لقد انفرط نصف العقد الثالث بعد ؛ يا إلهى؛ يا ويلى ممن لا يرحمون من أدلجت أقدامهن العقد الرابع، ولم ترتبط بعد ، فما الحيلة فى ذلك ؟!
لم أكن متعجرفة أنظر بأناقة لطابور الإنتظار.
تباً للأفكار والمعتقدات التى سكنت عقول الناس !!حتى أمى لم يؤرق وجدانها غير تأخر نصيبى من الزواج حتى الآن!!
مجئ عائلة عم موسى:
وسط هذا الزحام والغناء وضجيج الأصوات، توافدت إلينا عائلة عم مرسى، الذى كان يقطن بجوارنا منذ زمن بعيد فى حى بولاق.
ومن الواضح أن الله أتاهم سعة من الرزق مثلنا، فرحنا جداً بلقائهم بعد كل هذا الزمن.
وصارت أمى تحاكى زوجة عمى مرسى، عن العِشرة والعيش والملح، وكيف كان الرجل يذكرنا دوماً بالخير قبل وفاته .
كنت مستمعة لهذا الحديث لكنى لا أشارك فيه فليس لدى ما أقوله من ناحية، ومن ناحية أخرى كنت أهرب جاهدةً من نظرات إبنها مجدى العائد من أمريكا.
وخجلى من زوجته التى بدأت تلحظ بغيرة النساء، ففطرة النساء واحدة .
بدا عليها جلياً أنها مستأة من زوجها الذى يحاصرنى بالنظرات قبل الأسئلة وشغفه الذى يزيد من خجلى كل لحظة !!
استئذنت والدتى بأن نذهب لنسلم على بعض الأصدقاء، وقبل أن ننصرف أخرج لى مجدى كارت بأرقام شركاته العقارية، ثم مضينا فى تؤدة أتأمل ما يحدث !!.
فاض الحفل بمدعويه حتى وجدت صديقتى “مروة” وكانت مفاجأة فلم أرها منذ سنين .
لكن وجهها أصبح شاحب وبدا عليها عمر يفوق عمرها بعشرات السنين يا إلهى! ما الذى جعلك هكذا يا مروة ؟!
أجابتنى بأنها لاقت الويل من عمليات متكررة كى تنجب، وبعد كل هذا العناء طلقها زوجها وتزوج بأخرى ! ..
حقاً وراء كل إبتسامة عناء لا يعلمه إلا صاحب الملكوت، تبادلت النظرات مع أمى، وفى النظرات عبارات وعبارات.
ضمدت جرح صديقتى قدر المستطاع بشئ من الصبر، ونظرة أمل فى فضل الله.
حتى عادت لها بسمتها ترتسم وجهها الملائكى وهى تردد “قلة الزواج أفضل من الإهانة التى نلاقيها يا حبيبتى “.
وجدت نظرة الغضب فى عين أمى من كلام صديقتى، فبادرت قائلة لها ” كل شئ نصيب يا عزيزتى ” .
…رأينا المدعوين كل يحمل أطباق الطعام مما لذ وطاب قادمين من البوفية، فاستشعرت الجوع.
فأنا لم أتناول الطعام طيلة هذا اليوم؛ سألت أمى أن نذهب للبوفية ..سرنا إليه ثلاثتنا .
حملت طبقى أمر به على كل شيف فيضع ما أختاره .
حتى وجدتني أمام شيف رفع يده ليضع فى طبقى لكن يداه تسمرت وعجزت كل حواسه عن الحركة إلا عيناه ودقات قلبه التى اسمع نبضها المتدفق ينهمر وجْدا نحوى.
سقط الطبق من يدى لكن نظراتنا لم تتساقط.
أبصرته بقلبى قبل عينى، تلاقت أمواج نهرين من حب قديم حجبهما تل من فوارق الطبقات المزعومة، ومظاهر خادعة أجهزت طريق الوصل لقلبين حلما يوماً بالعيش فى عالم لا يحكم قبضته المال.
آه وألف آه عاد الزمان بنا سنوات، وأنا أتذكر خروجه من بيتنا بعد التخرج يحمل خيبة الرجاء بقلب منهزم مقهور ووجه كساه السواد رغم وسامته التى أراها حتى اليوم.
لم يتفوه إلا بجملة واحدة ” مازلت على عهدنا ” .
مزقتنى عبارته، نظرت لوجه صديقتى الشاحب، ووجه أمى التى تحاول جاهدة أن تخفى نظرات خجلها المبعثرة بين أضواء وعتمات المكان وفى كل إتجاه ..أخرج لى كارت بأرقامه .
تناولته يدى، وهى تهرب منى خلف قلبى المضطرب بين أمس وغد .
عدت جالسة، وكأن معدتى امتلأت لكن القلب فارغ يتملكه شعور لا يعرف كنهه و مصيره غير الله !!
لم تمر دقائق حتى جاءت والدتى بصديقتها ” ماجدة” بكل عائلتها للتعرف على.
وكأنها تمسح بالأنس ما علا القلب من ركام ألم الذكرى ووجع اللقاء.
استقبلتهم بإبتسامة ملونة، أرد التحايا والسلام بلسان فارقه العقل بعيداً .
ظلت السيدة ماجدة تحاورنى وتمازحنى وتحدق فى بشدة و لتفاصيل جسدى وكأنها تستكشف قارة جديدة .
حتى أنتابنى الخجل والشك من منظارها الثاقب !!
لاحظت ضجرى، فأعلنت حسن نواياها بسرعة قائلة بأنها تبحث عن عروسة بنت حلال وجميلة مثلى لولدها البكر الذى انفصل عن زوجته منذ أكثر من عام.
وصارت تقدم لعمله المرموق ودخله العالى الذى يكفل الهناء لأى أسرة.
ثم أخذت تفند فى أسباب طلاقه لها، و أن طليقته كانت تفعل كذا وكذا بعد ان أنجب منها ولدان جميلان.
على حين أن إبنها كان نعم الزوج البار الذى تتمناه أى امرأة !!
استشعرت أنس أمى بهذا الحديث وهى تستجوبها وتسبر أغوارها بينما لاحظوا جميعاً غرغرت الدموع فى عينى وضيق الدنيا بوجهى .
فها أنا قد أصبحت اليوم سلعة تباع وتشترى بأبخس الأثمان ما أصعبه شعور تمر به أى أنثى مثلى عبر بها قطار العمر ثلاثة عقود كاملة.
والكل ما بين مشفق عليها وما بين متساءل عن حكايتها.
همت السيدة ماجدة بإخراج كارت بأرقامهم، وأرقام محلاتهم الشهيرة وسط البلد .
تناولته بابتسامة أهديتها الليلة كثير من الناس هنا .
استئذنا بالرحيل اصطحبتنى أمى فى ذراعها بعدما أدركت الحالة النفسية السيئة التى ألمت بى هذه الليلة !!
وفى الطريق الى السيارة أخرجت لها الكروت الثلاثة، سقط كارتان منهما أرضا دهستهما أقدامى .
بادرت أمى إليهما وهى تنفض عنهما التراب، لكنى انصرفت فى طريقى بما تبقى منهم تضمه يدى إلى صدرى .
تابعونا على صفحة الفيس بوك.