درب الأربعين “مقاربة تأملية لرواية “للروائى / ماجد شيحة
كتب حنان محمد \ رؤية .. أحـمـد ابـراهـيـمـ عـيـد
درب الأربعين..بلغة سرديةٍ سلسةٍ ورائقة ، وبأسلوبيةٍ خاصة من المشغولات اللفظية الدالة والمؤثرة وجدانيا ً وفكرياً ، نُسجت الأحداث الدرامية لهذه الرواية التى اعتمدت فى بنائها الروائى على الكثير من المفـارقـات الغـرائـبـية ، وعـلى إشـارات دلالـية هـامة مُعـلـنة ومؤجـلة .
هذا البناء الروائى
ــ بهذه الكيفية ــ يتوافق تماما مع سياق الصياغة الدرامية الحكائية للرواية المُحمَّلة على مـسـتـويين :
1 ــ مستوى سطحى بسيط يعبِّر عن التفاعلات الدرامية الواقعية المباشرة بين الشخصيات .
2 ــ مـسـتـوى عـمـيـق تحـكـمه الـرؤى الـمـيـتافـيـزيـقـية للـشـخـصـيات الغـيـر نمـطـية المحـركـة لـباطـن الـنـص .
والبعد الظاهرى والباطنى فى روايتنا هذه يجعلنا نطرح سـؤالاً مركـباً ، أعتقد أنه من الأهمية بمكان فى مجال الـدرس النقـدى فى عالـم الرواية :
ــ ماذا يريد الإبداع الروائى من الحياة بزخمها الاجتماعى والاقتصادى والفكرى والسياسى .. وفـوق كـل هـذا زخـمها الـروحـى ؟؟
ــ وماذا تـريـد الحـياة بمـسـتـوياتها الـمـتـبايـنة تـلك من الإبـداع الـروائـى بـزخـمه فى مـثـل هـذه الـروايـة ؟؟
وحتى لا ننساق وراء التحليلات التنظيرية قبل الاشتباك الفكرى الوجدانى مع المتن الدرامى المُشكِل لهذه الرواية ، سنؤجل تلكم التحليلات قليلاً ، لما بعد الاستمتاع بالدخول إلى جدلية التشابكات السطحية والعميقة التى تنتجها التحولات الواضحة للشخصيات ، من شـخـصـيـاتٍ نمطية عادية تتفاعـل مع مقـتضـيات الواقع ، إلى شـخـصـياتٍ غـيـر نمطـية تحـكـمها تجـلـيـات ما وراء الـواقـع .
نص الروائى
ولندخل أولا للنص الروائى من بابه الواسع المتمثل هنا فى العنوان “ درب الأربعين ” ، لنلاحظ أن ذلك المؤشر الخارجى يتسم بالإضاءة التى يخالطها شئ من الإعتام وذلك عند تفكيك هذا المؤشر العنوانى الذى يعتمد فى تركيبه اللغوى على الإضافة ، تلك الإضافة التى تحيلنا دلالياً إلى جـملةٍ ناقـصة تحـتاج فى عـملـيـتى الفـصـل والـوصـل بين المفـردتـيـن إلى اسـتـيـضـاح : ما هـو هـذا الـ ” درب ” ؟؟ .. ومـن هـم ” الأربعـيـن” ؟؟
والكاتب لم يتركنا كثيرا فى ظـل هـذا الإعـتام الـدلالى ، فها هـو فى الفـصل الـثانى المعـنـون بـ ” حكاية محمود العبد ورحلة درب الأربعين ” وبعد أن أسس موضوعيا فى الفصل الأول لغياب الأب ( تاجر الجمال ( باختفائه العجيب ، وبعـد أن نما إلى علم أولاده أخبارا تؤكد تواجده بـ ” أسيوط ” ، يرحل أصغر الأبناء ” مصدق ” للبحث عنه ، وفى أثناء بحثه يحملنا الكاتب بتقنية الاسترجاع الزمنى ( الفلاش باك ) المتصدرة لتقنيات السرد فى المتن الروائى على مدار الرواية ، حيث يتذكر ” مصدًّق ” رواية أبيه له مسبقا ً عن لقائه فى سوق إمبابة للجمال بـ ” محمود العبد ” خبير ودليل القوافل التجارية للإبل) المتقاعد ) الـذى يـأخـذنا بحـديـثه الـشـيـِّق المـطـوَّل مع ” الأب ” عن دنيا القوافل التجارية إلى فضاءات الدال المكانى المتسع لروايتنا والمـتـمـثـل فى الصحـراء الممـتدة من جـنوب مصر إلى شـمال السـودان والذى تقع بها أهم أحداث الرواية .
هاجسٌ ما جعـلـنى بعـد قراءتى لوصـف ” محـمـود العـبـد ” لطـريـق قـوافـل تجـارة الجـمال الـتجارية بداية من السـودان وانتهاءً بـ ” إمبابة ” أن أبحـث فى الدراسات العـلمـية عن ” درب الأربعين ” ، وإذا بالـوصـف الـسـردى لـ ” محـمـود العـبـد ” يـتـطـابـق تماماً مع ما ورد فـى هـذه الـدراســات .
درب الاربعين ملتقى الثقافات
فى دراسة علمية جديدة للباحث السودانى / إبـراهـيـم محـمـد إسـحاق ، بعنوان ” درب الاربعين ملتقى الثقافات.. الماضى وتحديات الحاضر وآفاق المستقبل ” يؤكد الباحث على أهمية ” درب الأربعين ” الذى يصل بين مصر والسودان كأشهر الطرق عالمياً فى تجارة الإبل ، حيث يبدأ من ” الفاشر “عاصمة ” دارفور” وينتهى عند ” إمبابة ” فى محافـظـة” الجيزة ” وتـسـتـغـرق هـذه القـوافـل أربعـيـن يوماً حتى تصل إلى محطتها الأخيرة فى مصر.. [ نفس الوصف الوارد فى حديث ” محمود العبد ” ] .
ومعظم حديث ” محمود العبد ” أتى فى سياق الذكريات المعتادة عن المفارقات الغريبة الحادثة فى رحلات هذه القوافل ، غير أن إشاراته إلى الدرويش الصحراوى الغامض ، الذى كان سببا ً مباشرا ً فى هجرانه لعالم هذه القوافل ، جعلت منه شخصية مفصلية ( فى المنهجية الهندسية للرواية .. إن جاز التعبير ) حيث أن كل التحولات الدرامية والنفسية بل والروحانية تأتى عقب هذه الرحلة التى قام بها ” الأب ” فى ” درب الأربعين ” والتى حولته ــ بعد لقائه بالدرويش الغامض من شخصية عادية نمطية ، إلى شخص غير نمطى يؤثر فى من حوله من شخصيات ، فيتحول من يتأثر به ( أيضا ً ) من شخص نمطى إلى نموذج للشخصية الغير اعتيادية والغير نمطية .
الواقع المكانى الجغرافى
هنا يجب أن نتوقف أيضا ً مع هذا التماس المقصود ما بين الواقع المكانى الجغرافى بدلالاته ، ومع الدال الموضوعى العام الذى ارتكز عليه الكاتب فى روايته ليجعله محوراً هاماً للتحولات الدرامـيـة لـديه .
مع توغلنا فى أحداث الرواية نكتشف أن هذا الدال المكـانـى ” درب الأربعين ” بهذه الكيفية المذكورة من ” محمود العبد ” ، هو دال ٌ سطحى على الرغم من التفاعلات الدرامية الناشئة عبر هذا الدرب ، إذ أن المستوى الأعمق يتمثل فى اشتباك هذا الدال السطحى مع هذه التفاعلات النفسية والروحية المتماسة أيضا ً مع ” درب الأربعين ” .. نكتشف ذلك عندما يلتقى ” مُصدَّق ” بطل الرواية ( وراويها ) بالدرويش الغامض فى رحلة بحثه الطويلة عن والده ، حيث يخبره بحقيقة التسمية للدرب بهذا الاسم .. ” هذا الطريق سُمِّى بالأربعين منسوبا ً إلى من عاشوا فيه منذ زمن ٍ بعيد ، عمَّروه ومعهم الزاد والماء للتائهين فيه ، أربعون جيلا ً من تلاميذ هذا الدرويش ” صـ 320 .
الحوار السردى الروائى
مرة ً أخرى يتوافق الحوار السردى الروائى مع ما ورد فى البحث العلمى المذكور آنفا ً حيث وردت فيه هذه العبارة :
” وقد لعـب طريـق درب الأربعـين دوراً ديـنـياً هـاماً ، حـيـث إن المـتـصـوفـيـن كانـوا يسـلـكـون هـذا الـطـريـق ، ويقال : أنه سـُمِّي بالأربعـين نظـراُ لمرور (40) من الطرق الـصوفـية المـتـتابعة والمتـواتـرة زمـنـيا ً فـيه منه وإليه خاصة من أولياء الطريقة الشاذلية نسبة إلى أبو الحسن الشاذلي وهو من ” شاذلة ” في ” المغرب ” ومن المعروف أنه دفن في الصحراء المتاخمة للبحر الأحمر في منطقة ” عيذاب” .
والكاتب يستحضر ” الشاذلى ” فيتجلى كأحد شخصيات الرواية وذلك فى لقائه الهام بالدرويش الصحراوى فى ” درب الأبعين ” وهو فى طريقه للحج ، وهذا اللقاء العلمى الإيمانى من المناطق المحورية الهامة المضيئة فى السياق الموضوعى للرواية .
وهذا اللقاء أيضا ً يعطى السياق الزمنى الروائى امتدادا ً ماضويا ً هاما ً يبرز أهمية فاعلية الدوال الزمنية الممتدة عبر ” درب الأربعين ”
أهمية فاعلية الدوال الزمنية
إن هذا الاشتباك ” الزمكانى ” المُتحقق روائيا ً والذى يدور ظاهريا ً وباطنيا ً حول دلالات عنوان الرواية ، والمشار إليه نصيا ً من داخل المتن الروائى وخارجه ، ليتوافق ــ فنيا ً وبلاغـيا ً إلى حـدٍّ بعـيـد مع تلك العـبارة الموجـزة الفـلسـفـية النابـضة للفـيـلسـوف الصوفى الشهـير ” ابن عربى ” والتى تصـدرت الرواية وهى :
(( الـزمــان مـكــان ٌ ســائـل ، والـمـكــان زمـــان ٌ مـتـجــمـد ))
ومع ذلك.. فعلى المتلقى الألمعى الحصيف ألا يستسلم لغواية ذلك الدرب الأربعينى ( زمانيا ً ومكانياً ) للكاتب وهو يضع منهجيته الخاصة للرواية ، وأن يتأمل فى الطابع الأهم للرواية القائم على إبراز سيطرة النوازع البشرية الخيِّرة والشريرة على مقدرات شخصيات الرواية ( فى المستوى السطحى من الرواية ) ، ثم الارتقاء الروحانى والمعرفى فوق هذه النوازع فى إطار درويشى فلسفى ( فى المستوى الأعمق من الرواية )
وعلى الرغم من اتساع الدوال المكانية وفاعلياتها فى النص الروائى انطلاقا ً من قرية بجوار ” المحلة الكبرى ” ، إلى ” بنها ” سوق الجمال الأقرب ، إلى ” إمبابه ” سوق الجمال الأوسع ، إلى قرية ” دراو ” مستقر القوافل التجارية للجمال فى جنوب الصعيد مرورا ً بـ ” أسيوط ” فى رحلة البحث عن الأب المختفى ، إلى الدخـول إلى متاهـات صحراء ” درب الأربعين ” ، ثم العروج مكانيا ً وزمانيا ً إلى بلاد المغرب العربى .
رحلة البحث
وعلى الرغم من امتداد الدوال الزمانية التى تبدأ من مايو 2014 ( لحظة انطلاق مصدق فى رحلة البحث عن والده والتى لا تنتهى بانتهاء الرواية ) ، ثم الاسترجاع الزمنى للرحلة الأولى للأب لشراء الجمال عبر صحراء درب الأربعين ( هذه الرحلة التى تستغرق عاما ً كاملا ً بدلا ً من أربعين يوما ً ) ، ثم ذكريات نشأة أخوة ” مصدَّق ” إلى أن يبلغوا مبلغ الرجال مع ملابسات هذه الذكريات ، ثم الرواية المصاحبة لذلك عن ” خليفة ” الذى تدروَش وأصبح الشيخ ” أبو القمصان ” بعد القبض عليه وهروبه عقب مقتل ” السادات ” ، ثم هذه المساحة الزمنية الأرحب التى يسترجعها الدرويش الصحراوى الغامض على مدى سبعمائة عام منذ نشأته فى الصحراء المغربية ورحلته المعرفية الغرائبية فى دولة المرابطين ، إلى الانتهاء بسياحته الصحراوية التى لا تنتهى بانتهاء الرواية .
على الرغم من هذه التشابكات المكانية الزمانية ، إلا أن الأحداث الروائية بدراميتها الحركية والنفسية والروحانية ، تجعل من روايتنا هذه رواية شخصيات فى المقام الأول ، وهذه الدوال الزمكانية ما هى إلا مسرحا ً غاية فى الاتساع ، تتم فيه تلك التحولات للشخصيات النمطية والغير نمطية عبر هذا النص الذى يثير الكثير من القضايا الشائكة .
وللحديث بقية.
تابعونا على صفحتنا الفيس بك