منذ إكتشاف جثمان مريم مجدي الطفيلي طافياً على نهر الراين في فبراير ٢٠٢٤ وقصتها قد إنتشرت كما النار في الهشيم، لكن المدهش فعلاً هو أن قضية بهذا الحجم لم تؤدي لطرح الأسئلة التي تليق بهكذا حدث جسيم . وحين يتحدث الجميع عن الزوج الذي أخذ الأولاد وذهب بهم إلى المطار ثم سويسرا لا يمكن حصر النقد في الإعلام على القانون المصري الذي يسمح للأب بالسفر مع أطفاله ما دام متزوجاً من أمهم أي أنه رب الأسرة، لأن القاعدة تقول بأن رب الأسرة الحقيقي لا يهز سلام أسرته التي هي عرضه وشرفه في عرف من وضعوا لنا هذه القوانين في الزمن الجميل. إن السؤال الحقيقي في قضية مريم والذي يجب طرحه هو:
لماذا لم تستطع مريم أن تركب الطائرة التالية وتلحق ببناتها قبل أن يلحظوا حتى غيابها؟
وسيقول البعض هنا: إقامة مريم بسويسرا كانت قد إنتهت ويجب تجديدها!
والإعتراض هنا: بسيطة، ولماذا السفارات إذاً، تأشيرة سفر سياحية عاجلة لمريم كانت لتكفي كمرحلة أولى كيما تلحق ببناتها وتجدد الإقامة حين تصل لسويسرا، تجديد الإقامة هناك كان سيكون أسهل كثيراً من أن تجددها من مصر، ألا تعتقدون هذا؟
لكن السفارة السويسرية في القاهرة رفضت منح تأشيرة السفر لمريم، لأن زوجها قد عمل لها ” بلوك” أو شيئ من هذا القبيل كما قيل. وحين يستطيع الزوج فعل هذا فإن سويسرا تمجد إذاً أفعاله، أو أنها تعطيه الأفضلية هنا كأب سويسري على الأم الأجنبية. من المدهش حقاً ألا تستطيع إمرأة أنجبت لسويسرا بنتين كما القمر أن تدخل إلى بلاد بناتها، وأن يتم رفض طلبها لتأشيرة سفر حتى تلحق بهن بعد أن قرر زوجها السويسري أن يحرمها من بناتها. وأن تحتاج إلى التواصل مع الجمعيات الخيرية والجالية المصرية هناك من أجل هذا، شكراً لجهود كل من ساعدوا مريم، لكن، لم يكن من المفترض أن تحتاج مريم لوساطة أحد من أجل الحصول على تأشيرة السفر لسويسرا. لأن دماء مريم تجري سلفاً في سويسرا من خلال بناتها، أي أن ما بينها وبين سويسرا ليس ماء بل دماء!
ثمانية أشهر كاملة صرفتها مريم وهي تسعى خلف تأشيرة السفر إلى سويسرا. وفي تلك الفترة تم تغريب الأم عن بناتها بشكل كبير. البنتان اللواتي كن يتكلمن العربية لسنوات بلا إنقطاع في مصر توقفن فجأة عن الحديث بها حتى مع أهل أمهن في التلفون. أما الصغيرة فتغيرت مع أمها، وكأنها بدأت تصير غريبة عنها. والحقيقة المؤسفة التي تبقى لنا هي:
خلال الثلاثة أشهر الأخيرة من عمرها والتي صرفتها مريم في سويسرا، أي أكتوبر ٢٠٢٣ وحتى إختفائها في ٣١ يناير ٢٠٢٣، لم تقضى مريم يوماً كاملاً مع بناتها يبتن فيه بأحضانها. في البداية كان مسموحاً لمريم أن تراهن مرتين في الأسبوع ولمدة ساعتين، ثم صاروا ثلاثة بعدها، ثم سمحوا لها بقضاء اليوم كله معهن من آن لآخر لكنها كانت تعود في المساء للمبيت في فندقها كالغرباء. صحيح أن مريم كانت ستحصل على شقة لاحقاً بناء على حكم المحكمة، لكنها ماتت قبل هذا، ولم تنم أبداً مع بناتها في ذات الحجرة لقرابة العام، أي منذ أن غادروا مصر في مارس عام ٢٠٢٣ مع أبيهم وإلى أن ماتت هي في يناير ٢٠٢٤.
في عامها الأخير بالحياة عاشت مريم جحيم المعاناة وعذابات الروح بسبب بعد “الضنا” عنها. كافحت المسكينة شهورا في مصر من أجل الحصول على تأشيرة السفر لسويسرا، ثم كفاحت في المحاكم حين وصلت لسويسرا كيما تستطيع الوصول لحقوقها المادية كزوجة وأم حتى تستطيع البقاء قرب طفلتيها. وأثناء تلك الفترة كانت مريم بعيدة عن بناتها إذ أنهم بقوا يعيشون مع أبيهم، منذ وصولها لسويسرا وحتى يوم موتها حين تركتهم وعادت للفندق الذي لم تصل له، ثم إنتهت بشكل ما في النهر ولا أحد يدري كيف حدث هذا وإن كان قد تم إلقائها فيه قبل الوفاة أو بعده. وبعيداً عما حدث لمريم في ذلك اليوم المرعب، نحن علينا أن نكف عن الحديث عن حقوق كانت ستأخذها لولا موتها ولنقف عند حقوق لم تأخذها قبل موتها. بلا جدال، هذه التراجيديا كان يمكن تفاديها لو أن سويسرا تعاملت مع مريم منذ البداية كأم كاملة الحقوق بدل الإعتماد على ما أخبرهم به زوجها دون أن يتم حتى التحقق من صحة أقواله. هذه النمرة تكررت مراراً قبل هذا ولدينا ملفات العديد من الحالات في هذا الشأن، يرددها البعض هناك عند انفصالهم من الأجانب، الطرف الأجنبي مصاب دوماً بحالة نفسية، ويتم دوماً تصديق هذا. وفي العادة لا يسمع أحد عن تلك الحالات، هو موت مريم ما يلقى الظلال على حقيقة ما يدور. فلنطرح السؤال هنا وبشجاعة، ونأمل أيضاً في شجاعة الرد: هل لعبت العنصرية دوراً في هذه القضية، لأن الأب هو من تجري في عروقه الدماء السويسرية عن طريق أمه؟ وهل يتم التعامل أحياناً مع الطرف الأجنبي على أنه آلة تلقيح؟
قد لا يعلم الكثيرون بأن القانون السويسري يسمح للطرف السويسري في الزيجة بإخراج الطرف الأجنبي من بلاده لو أراد، ودون أطفاله. ثمة نائب في البرلمان السويسري يسعى الآن لتغيير هذا الوضع ويعتبره ظلماً ولا ندري إلى أين وصلت مساعيه!
ما حدث قد حدث ولا يمكن تغييره لمريم بعد أن دفعت حياتها ثمناً غالياً لبناتها، والسؤال المحوري الآن هو: ما هو مصير البنات؟
عائلتها في مصر تسعى وراءهم، ووضعوا كل الحلول الممكنة من أجل هذا، غرفة البنتين جاهزة في مصر لو عدن للوطن، وإن رفضت سويسرا إخراج البنتين منها فإن خالهم حسام جاهز للإنتقال لسويسرا مع أسرته لرعايتهم بشكل شخصي. وبالمناسبة، هذا أرخص للدولة من وضعهم في ملاجئ الأطفال. ولو وافق السويسريون على منحه الإقامة وحق رعاية البنات فإن هذا الحل ليس سيئ.
لكن، لماذا قد ترفض سويسرا إخراج البنتين منها؟ عاشت البنتين حياتهم قبلاً في القاهرة ويزورون فيها المدارس، كما أن لديهم جوازات سفر سويسرية إلى جانب المصرية، بإمكانهم العودة لسويسرا لو كبروا يوماً وأرادوا هذا، أو يذهبون لها في الإجازات، مرتان في العام لو شئن، خالو أحمد سيدفع لهن التذاكر عن طيب خاطر. لكنهن الآن طفلات، والأطفال يحتاجون في المقام الأول لشيئ واااااحد، أسرة.
والأسرة موجودة بمصر، أسرة أمهم التي تبذل قصارى جهدها للوصول لهم. وهي أسرة متماسكة ومليئة بالمحبة، متماسكة إلى الحد الذي يجعل أخيها يحس بغيابها في ضجيج زماننا الصاخب، لأنها لم تظهر لبضع ساعات فقط على الميديا. يعرف الأخ أخته فقام بتحليل سلوكها بأنه غير طبيعي. ثم تواصل مع أخيه الآخر وبدأوا في البحث عنها. نحن هنا أمام أسرة تهتم ببعضها وتتابع شؤون أفرادها بشكل يومي، وكما كانوا يهتمون يوماً بمريم فسوف يهتمون أكثر ببناتها. وأيضاً، صرفت البنات كل السنوات السابقة قرب جدتهن المصرية، أي أن الجدة المصرية تعرف أكثر عن طباعهن من جدتهن السويسرية التي صرفن معها أقل من عام، كما أنه ليس من المريح على الإطلاق أن يكبر الإنسان في بيت من قتلوا امه. ويبقى أمامنا ملجأ الأطفال في سويسرا لكنه ليس بالخيار الأمثل لطفلتين يمتلكن سلفاً أسرة كبيرة وسوية بمصر. أي أنه حل لا حاجة له ويجب إخراجه من قائمة الاحتمالات. بلا جدال، طبيعة الحياة الإجتماعية بمصر وإحساس الكثيرين فيها بالمسؤولية تجاه اليتيم كفيل بأن يداوي جروح البنات ذات يوم، والله كفيل بجبر الخواطر. وعسى الله أن يبارك في بنات مريم فيصبحن العزاء لأهلها، لنمنح هاتين الطفلتين بركة الدعاء، الآن وهنا، حق مريم علينا في صيامنا أن ندعو لبناتها، مسلمين وأقباط. تمر البنتان بمحنة كبيرة بعد إغتصاب طفولتهن بهكذا جريمة. ولا أحد يدري كيف تتعامل الطفلتان هناك مع هكذا كارثة، إدارة الملجأ في سويسرا تقول بأنهم في وضع جيد، هذا كل شيء!!!
كلما طال الإنتظار زادت معاناة البنات وأهل مريم. لليوم لم يتم السماح لأسرة مريم بالحديث مع البنتين عبر الهاتف، كما سافر شقيقها حسام لسويسرا خصيصاً من أجلهن، هو موجود بها منذ أكثر من شهر ولم يسمح له برؤية البنات إلى اليوم. وكأن على أسرة مريم أن تعيش في نفس المسلسل الذي وجدت مريم نفسها فيه. وهو ليس بمسلسل جيد على الإطلاق، لهذا يجب إيجاد نهاية معقولة له تعادله ولو قليلاً. عودة الأطفال لأهلهم بمصر ولو بشكل مؤقت للبقاء مع أهلهم هنا قد يساعد على هذا. الحب هو ما تحتاجه الطفلتين الصغيرتين ولا يجب منع تدفق هذا الحب لهن، لأنه ما يحتجن له اليوم.
طلبات أهل مريم بسيطة للغاية وجديرة بتحقيقها: يريدون ولاية البنات سواء في مصر أو سويسرا!