قصة قصيرة (-32غريب فى بقاع الأرض . من يكون!) للكاتب الدكتور ماهر خليل.
كتب حنان محمد
32غريب فى بقاع الأرض … من يكون!
استيقظ من نومه كعادته .. ليصلى الفجر.. ثم أخذته غفوة من النوم … وقام لتناول فطوره كالمعتاد .. وارتدى بدلته الرسمية .. ذاهباً الى عمله .. متمتماً بدعاء الخروج من البيت .
. راجياً مولاه أن يتم شفاءه .. بعد أن ضاق به الحال من شدة الوجع .. وكثرة التردد على المستشفى الجامعى .. بسبب مرضه الذى لا يعرف له سبباً .. بين الفينه والأخرى.!!
خرج من بوابة العمارة التى يسكن فيها .. متجهاً صوب سيارته المتواضعة الصغيرة الحجم الزرقاء اللون …وما إن وضع المفتاح بباب السيارة ..
حتى شعر أن هناك من هو قادم تجاهه ..
مباشرة .. من بين جميع الموظفين العاملين بالشركة التى أمام بيته وهم واقفون يتحدثون .. فى أمور دنياهم! إنه يخترق ذلك الجمع بكل سهولة ويسر .. بجلبابه الصعيدى الأبيض وخطوطه الزرقاء .. والكم الواسع .. وعمامه بيضاء قد لفها بإحكام .. هى أكبر من رأسه قليلاً .
انه أسمر اللون، ذو أعين دقيقة غائرة .. وشفاه ذابلة وابتسامة هادئة يذوب أمامها الجبال !! شعرت من خلالها وكأنه يعرفنى من زمن بعيد…. إنه ينظر الىّ بنظرة كلها وداعة و ألفة عجيبة !! وأنا أسأل نفسى: هل يعرفنى حقاً!!
ومتى .. وأين !!
اننى لم أره من قبل!
شعور عجيب وغريب .. لا تملك أمامه سوى الصمت وأن تقابل الابتسامة بابتسامة !! إنها على الأقل ابتسامة الصباح!!
ومن هنا ..
كان الحوار..
السلام عليكم يا أبو أحمد.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
قلتها وأنا فى حيرة وتعجب شديدين !!وحالة من الاستغراب الشديد..
إنه ينادينى بكنيتى!!
من أين عرفها!
لقد قطع أفكارى بطلب عجيب.. وبأسلوب مهذب قائلاً:
تأذن لى بأخذ دقائق من وقتك !! انه يقولها على استحياء شديد!! ثم ما هذا النور المنبثق من بين ثناياه الناصعة البياض .. وما تلكم الكياسة .. وهذا الأدب الرفيع الجم!
لكنه قطع تفكيري ومشاعرى … بطلب سريع ومباغت قائلاً:
أستسمحك أن نجلس سوياً بالسيارة .. فلا يصح أن نقف هكذا بالشارع .. ممكن ؟؟ وفتح الباب الأمامى ودخل السيارة وجلس بجوارى !
كيف حالك يا أبو أحمد .. إن شاء الله تكون غير .. انت لسه عيان!!
نعم .. ومازلت .. قول يارب
ربك كبير يا أبو أحمد .. كله بميعاد .. أنفق يا أبو أحمد فى سبيل الله.. وبقدر ما تستطلع .. أنفق .. والله المستعان. فجاء فى ذهنى مباشرة .. أنه محتاج .. ويطلب صدفة..
فأخرجت ما كان فى جيبى…. ورقتان .. كل منهما عشرون جنيها…. وانا انظر اليه ابتسامة حزينة حانية…تفضل….فإذا به يبتسم ابتسامة حزينة ذابلة … ومد يده وأمسك الورقتان بيده وقبلهما .. ثم ردها الىَّ .. قائلاً:
أنا لست من أصحاب الأموال يا أبو أحمد .. خذها وأعطها لمسكين أو محتاج!!
لقد بدأ العجب يتسلل بداخلى .. وملأتنى الدهشة، وعمنى الاستغراب …
ياترى ماذا تريد؟
من أنت!
عجيب أمرك أيها الشاب!
لقد قطع حبل أفكارى بقوله وسؤاله العجيب!
أعطنى المنديل يا أبو أحمد!!
فسارعت بإخراج منديل كلينكس من العلبة اتى أمامى بالسيارة معطيا إياه.
فقال لى: لا يا أبو أحمد .. ليس هذا .. أريد المنديل القماش الموجود بجيبك الأيسر بيدلتك!
عجيب!! أن لم أخرجه أمامه ولو مرة واحدة !!
كيف عرف ذلك!
ومكانه على وجه التحديد!!
فأخرجته له … وإذا به بحركة عجيبة وسريعة جداً وبرمه برمة واحدة – فصار كالحبل المفتول وظهرت به عقدة فى الوسط (لم يعقدها هو كما نفعلها نحن) ثم كوره ووضعه على وجهه .. وهو يبكى – بكاء العليل – الفاقد لولده .. أو أبيه .. وقد حلت بى الشفقة عليه والحزن علي ما هو فيه!
انه يبكى بكاء يعقوب على يوسف !! وهو يدعو .. ويدعو .. ولا يقول الا كلمه واحده.. يارب.. والدموع تنسال على خدوده… مستقبلاً إياها بذاك المنديل … وأن أنظر اليه باستغراب شديد وشفقة وحزن عميقين .. يالها من أعين باكية .. وشفاة ذابلة .. من جسد نحيف هزيل!! وفجأة .. فتح يده .. وأنا لا أملك إلا الصمت والنظر والمتابعة.. وفتح المنديل .. وإذا به قد عاد كما كان .. بدون عقدة .. ولا إبرام ..
ونظر الىَّ قائلاً:
خلاص يا أبو أحمد !! أشكر الله.. صباح مساء .. منهم لله !! الله المنتقم .. كنت مأذيا .. انحللت عقدتك … عليك بذكر الله … داوم على القرآن … أشوفك على خير …. فى أمان الله…
ونزل من السيارة .. ومشى !!
أحسست بأن قلبى قد انخلع من مكانه .. يريد أن يذهب معه!!
-أنا عايز أشوفك يا أخى … لما أحب أشوفك أشوفك فين؟
ابتسم على استحياء … قائلاً:
-عند السيد البدوى .. مش انت دايماً هناك؟ أنا شايفك…. لما تروح … تلقانى هناك!!!!
إنعقد لسانى هذه المرة !! ما أدراه ! أنا لم أره أبداً هناك .. ولكنه يعلم جلوسى بين المغرب والعشاء هناك !!
عجيب .. يا إلهى .. وربى وخالقى من يكون!!
نزلت من السيارة وبسرعة .. لأراه .. وإذا به فى أقل من ثانيتين أو ثلاثة … اختفى الفتى الصالح .. مرة واحدة … بعد أن كنت قد رأيته يمشى بين الناس الواقفين بجوار السيارة .. بأم عينى !!
فأصابتنى حالة من الذهول .. وأخذت أسأل عنه الواقفين الذين يعرفوننى .. وعن وصفه .. وشكله .. وملبسه .. أجمع الكل أنهم لم يروه … أبداً!!!
اننا لم نرى رجلاً أو شاباً بتلك الصفات!!!!!!
يا قوم .. يا ناس .. الذى كان معى منذ قليل بالسيارة ..وكنتم جميعاً تروحون وتجيبون ومنكم … واقفون!
أقسموا أنه لم يكن أحد معك بالسيارة .. كنت وحدك !
عدت الى سيارتى … أجر قدماى .. تتملكنى الدهشة والحيرة وجلست باكياً … متعجباً … وفى الوقت نفسه كنت فرحاً سعيداً مسروراً بما حدث!
وبعدها .. أذن لى بالشفاء .. فى الحال .. أشكر الله تعالى …
ولكن هذا الضيف الغريب .. العجيب .. لم يعد!!!
ياترى ………..
من يكون !!!!!
من يكون !!!!!