عبده القادر
بعد أن نسيته لسنوات طوال ، انبجست ذكراه فجأة لتطفو علي السطح بكل تفاصيلها ، بمعطفه الأسود والكوفية الصوفية ، وعصاه ذات المقبض العاجي التي لم تفارق يمناه ..
كان متزوجاً من اثنتين ، دونما عقب . أطلق عليه أخي الأكبر لقب ” عبده القادر ” طبقاً للمثل الذي يقول إن من له زوجتان لابد و أن يكون قادراً ، وكانت الزوجة الشابة الثانية أمله الأخير . الذي خاب – في الإنجاب .
في ساعة محددة من المساء يأتي إلي أبي في متجره ، ويبقي حتي موعد الإغلاق ، ثم يمضيان معا إلي مقهي قريب ، أو يتمشيان حتي يفترقا عند ميدان الساعة .
حين ينشغل أبي في مساعدة أحد زبائنه علي اختيار قماش من الهيلد الإنجليزي أو الحرير الياباني ، أجلس مع عم عبد القادر علي الرصيف المتاخم منصتاً لحكاياته الخيالية وأحاول أن أحل فوازيره التي لا تنتهي .
كان يحل لي بعضها ، بعد أن يغلب حماري،لم أعرف لأبي أصدقاء غيره، منذ صباي حتي غابا عن الدنيا، وحدث ذات يوم – وأنا علي أعتاب الجامعة، أن شجر بينهما خلاف لم يصرحا بأسبابه ، وكاد يصل إلي حد الخصام ، لكن أثره بدأ واضحاً، وبرغم أن عم عبده لم ينقطع عن حضوره المسائي ، فقد كان ينصرف وحده قبيل موعد الإغلاق، ولاحظت إعراضاً عنه من أبي عندما احتسي قهوته وحده ، ثم طلب غيرها لعم عبده من مرسي القهوجي .
لم يصبر عم عبده علي هذا الخصام طويلاً ، وعندما خلا المتجر ذات مساء أصر أن أكون حكماً بينه وبين أبي .
قال أبي بحدة : رأوك تخرج من بار الياس مترنحاً …
ماذا يقول الناس عني ؟ سيقولون إن المرء علي دين خليله …
قال عم عبده : كانت مرة واحدة ، ولن تعود …
ثم أجهش بالبكاء .
ما أصعب أن تري رجلاً يبكي ، كبركان ثار بعد أن ضاق به جوف الأرض !
كان حكمي انتصاراً لأبي ، لكن قلبي كان مع عم عبده .
لم يمض وقت طويل حتي قضي أبي ، دون مقدمات ، وتوليت إدارة المتجر بعد أن استقرت الأمور .
انقطعت أخبار عم عبده ، ولم أكن أعرف له عنواناً ، حتي جاءني ذات مساء متكئاً علي عصاه ، وقد اهتزت خطوته وتهدل معطفه علي كتفيه،توقف برهة عند المدخل كأنه ينتظر إذناً بالدخول، لعله لم يعرف أني اشتقت إليه بعد موت أبي، عاود سيرته الأولي ، وظل يأتي كل عدة أمسيات ليحتسي قهوته ، وعندما يخلو المتجر من الزبائن يحكي لي حكاياته القديمة التي كانت تستهويني في صباي ، وبين الحبن والآخر ينظر إلي صورة أبي المعلقة علي الجدار.
تابعونا على صفحة الفيس بوك