ثقافة

قصة قصيرة “عبده القادر ” للأديب فخري أبو شليب.

متابعة: حنان محمد

عبده القادر

بعد أن نسيته لسنوات طوال ، انبجست ذكراه فجأة لتطفو علي السطح بكل تفاصيلها ، بمعطفه الأسود والكوفية الصوفية ، وعصاه ذات المقبض العاجي التي لم تفارق يمناه ..
كان متزوجاً من اثنتين ، دونما عقب . أطلق عليه أخي الأكبر لقب ” عبده القادر ” طبقاً للمثل الذي يقول إن من له زوجتان لابد و أن يكون قادراً ، وكانت الزوجة الشابة الثانية أمله الأخير . الذي خاب – في الإنجاب .

في ساعة محددة من المساء يأتي إلي أبي في متجره ، ويبقي حتي موعد الإغلاق ، ثم يمضيان معا إلي مقهي قريب ، أو يتمشيان حتي يفترقا عند ميدان الساعة .
حين ينشغل أبي في مساعدة أحد زبائنه علي اختيار قماش من الهيلد الإنجليزي أو الحرير الياباني ، أجلس مع عم عبد القادر علي الرصيف المتاخم منصتاً لحكاياته الخيالية وأحاول أن أحل فوازيره التي لا تنتهي .

كان يحل لي بعضها ، بعد أن يغلب حماري،لم أعرف لأبي أصدقاء غيره، منذ صباي حتي غابا عن الدنيا، وحدث ذات يوم – وأنا علي أعتاب الجامعة،  أن شجر بينهما خلاف لم يصرحا بأسبابه ، وكاد يصل إلي حد الخصام ، لكن أثره بدأ واضحاً، وبرغم أن عم عبده لم ينقطع عن حضوره المسائي ، فقد كان ينصرف وحده قبيل موعد الإغلاق، ولاحظت إعراضاً عنه من أبي عندما احتسي قهوته وحده ، ثم طلب غيرها لعم عبده من مرسي القهوجي .

لم يصبر عم عبده علي هذا الخصام طويلاً ، وعندما خلا المتجر ذات مساء أصر أن أكون حكماً بينه وبين أبي .

قال أبي بحدة : رأوك تخرج من بار الياس مترنحاً …
ماذا يقول الناس عني ؟ سيقولون إن المرء علي دين خليله …
قال عم عبده : كانت مرة واحدة ، ولن تعود …
ثم أجهش بالبكاء .

ما أصعب أن تري رجلاً يبكي ، كبركان ثار بعد أن ضاق به جوف الأرض !
كان حكمي انتصاراً لأبي ، لكن قلبي كان مع عم عبده .
لم يمض وقت طويل حتي قضي أبي ، دون مقدمات ، وتوليت إدارة المتجر بعد أن استقرت الأمور .

انقطعت أخبار عم عبده ، ولم أكن أعرف له عنواناً ، حتي جاءني ذات مساء متكئاً علي عصاه ، وقد اهتزت خطوته وتهدل معطفه علي كتفيه،توقف برهة عند المدخل كأنه ينتظر إذناً بالدخول، لعله لم يعرف أني اشتقت إليه بعد موت أبي، عاود سيرته الأولي ، وظل يأتي كل عدة أمسيات ليحتسي قهوته ، وعندما يخلو المتجر من الزبائن يحكي لي حكاياته القديمة التي كانت تستهويني في صباي ، وبين الحبن والآخر ينظر إلي صورة أبي المعلقة علي الجدار.

تابعونا على صفحة الفيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى