ثقافة

دراسة نقدية “قصص القطار لا يصل إلى البحر” للكاتب حسن غريب.

متابعة: حنان محمد

دراسة نقدية “القطار لا يصل إلى البحر” مجموعة قصصية جديدة للأديبة منار حسن فتح الباب .. وهى مجموعتها الثانية،  وكانت قد أصدرت قبلها مجموعة ” لعبة الشبه ” فى عام 1993 م عن سلسلة إشراقات أدبية أما هذه المجموعة القصصية الأخيرة فقد صدرت فى عام 2000 م ، أى بعد سبع سنوات من صدور مجموعتها الأولى، صدرت المجموعة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسة كتابات جديدة وهى ذات المجموعة الفائزة بجائزة الدولة للإبداع عن المجلس الأعلى للثقافة ومجموعة “القطار لا يصل إلى البحر”.

تتضمن ستة عشر قصة قصيرة وهى : –
“رائحة الأشجار” و”غبار” و”النفق” و”وشبح القمر” و”الموكب” و”قصر البارون” و”ثقوب الحروف” و”القطار لا يصل إلى البحر” و”المحطة” و”الطبول” و”أجنحة الشاطئ المهجور” و”مطاردة” و”البائع” و”دخان بلا رماد” و”النوافذ” و”حصار”. عناصر التوحد والتجانس فى القصة يسيطر الماضى والحاضر على روح القصص فهذا القطار الذى أشرق فى الماضى لم يعد له وجود مع البحر إلا فى الذاكرة الذى يؤرخ لغيابه التدريجى بنسيان الرسوم والأشياء والأحداث ليجسد الجانب المأساوى فى الموج الذى يعلو كالحريق.

الأدبية ” منار فتح الباب ” فى قصصها لا تضع المساحيق على وجه الحياة ، حتى لو كانت الحياة مؤلمة فالألأم هى التى تربط بين البشر ، ولقد أحببت مجموعتها القصصية ” القطار لا يصل إلى البحر ” لأن فيها ألام ممتعة، وجمال البحر الأزرق ورائحة الطحالب وشقاوة غضة ودموعاً عذبة، كل كوائنها تطلب المؤانسة وكل سماواتها تهفو إلى نجم ، وأشجارها وشوارعها ونفقها الضيق ، تحن إلى تغريدة طير فى لحظة ميلاد فجر جديد، عناوين المجموعة مقسمة حسب نصوص القصص من كل عنوان يتكون من عدد من الموتيفات أو المقاطع أو الجزئيات أو المتواليات والتى تشكل فى مجموعتها حالة موحدة ومتجانسة يؤدى بعضها إلى بعض.

من السطر الأول فى المجموعة القصصية ” القطار لا يصل إلى البحر ” تبرز لك ” بشكل جلى ” ملامح هذه المجموعة التى تطغى على معظم قصصها، وهذه الملامح هى الإحساس بالبيئة.. فالبيئة التى حملتها القاصة ” منار فتح الباب ” أينما حلت وارتحلت تظهر فى مدخل القصة الأولى فى المجموعة ” رائحة الأشجار ” من خلال قولها : ” ارتفعت ظلال رمادية ثلاثة، فعلقت بين السماء والأرض ثم دهسها قمر لم يشاهد الناس مثله من قبل، على حين تعالى ترتيل ونشيج وغمغمة تشبه الحفيف.. وظهرت جثة قطة تفوح منها رائحة أشجار على ناصية المنزل ” وحين تنتهى من هذا المقطع السابح بحرارة المكان الطافى على ذاكرة بطلة القصة..، تراها تنقلك بقولها ” تنام صباحاً وتمتلك الشوارع والليل بين حناياها ، فتظهر جميلة فى حلم الأم داخل مركبة أسطورية لزفاف مستحيل يجرها فيل من اليمين وفرس من اليسار “.

فكأن هذه الأسطر القليلة ترسم بإيجاز وصدق الخطوط العريضة البارزة التى تنتظم المجموعة، وكأن الراوية تمثل الكاتبة التى أوضحت على غلاف مجموعتها الأخيرة بنقلة سريعة توحى بالغربة السحيقة عبر بيئتها الفطرية وعن الطبيعة البكر بكل براءتها وعفويتها والتى يسربلها الحنين إلى عشق البحر البعيد مكاناً وروحاً عن إيقاع الحياة فى تلك الأمكنة التى تغوص فى حمى المادة ومظاهر الحضارة والمدنية الرائعة الذائقة الجافة. البيئة والتحول الإجتماعى هنا نحس بتصحر العواطف والأحاسيس العابسة، ولعل العلاقات الإنسانية فى تلك الأمكنة تكاد تكون معدومة فهى لا تنمو إلا من خلال المادة التى تسحق روح الإنسان.

تلك العلاقة الحميمة بين عالم الحشرات وبطلة القصة التى لا يرى الإنسان ذلك إلا من خلال منظارها القاتم ، وهذا ما يتضح جلياً فى قصة ” المحطة ” فصاحبة القصة تكره من يؤذى الحشرات وأن أصوات نعيب الغراب وهى تحوم فى الفضاء المتوعك برحلة الليل وكأنها تدعو الكون أن يستيقظ ، يوحى له بمئذنة تنشق عن غسق الفجر أو عن أصيل راعش يتشبث بشجرة من أشجار تلك الحديقة المهيبة أو جزء من سور الثكنات العسكرية لمبنى ” القيادة المشتركة ” المجاور.

مئذنة يلتف حولها التاريخ وأجنحة الطيور وعبق الدهور والشموخ الذى لا يشيخ… أليس هذا التاريخ تاريخ وطنها الضارب فى الجذور فى الأرض والحنين الغامر هو الحنين إلى الأم فتقول الأدبية ” منار فتح الباب ” فى قصتها ” المحطة ” : : ” وظلت الحافلة طيلت حياة أمى سرابا.. غيثاً لا يهطل.. وتشققت يداها، فانفلتت يداي عنها ” ، أنه الحنين والشوق إلى الأم وإلى الأزهار التى هى رمز القيم السامية ورمز الطهر والبراءة!
الإيغال فى ارتياد الأمكنة إن أول ما يثير إعجابنا واهتمامنا فى هذه المجموعة هو أسلوبها الفنى ، الذى يوحى بسليقة لغوية ترتوى من تراث عريق نظراً لنشأة الكاتبة الشاعرية…. ولم لا ؟ فإن أباها الشاعر الكبير الدكتور حسن فتح الباب ، الغنى عن التعريف فى ساحة الأدب العربى ..إلا أن هذه اللغة التى تلتفت إلى التراث تنغمس فى الحاضر المعاصر بملامحه الحديثة وتحولاته .

إنها لا تتلعثم أمام التفاصيل الواقعية ، مؤكدة فى الوقت نفسه انتماءها إلى المدرسة التى كان ” يحيى حقى ” رائداً لها ، بل أن لمسات وعطر ” تشيكوف ” تتبدى هى الأخرى فى هذه المجموعة،و الأدبية تأكيداً لانتمائها إلى أسرة شاعرية عريقة نسبة لأبيها دكتور حسن فتح الباب تهديه المجموعة قائلة :
” إلى أمى وأبى مرة أخرى… وأبداً وإلى نجلاء وهشام اخوتى… وأسرتيهما إلى زوجى طارق.. بداية الحياة ومنتهاها فى غد أتمنى أن يكون أجمل “. الحلم والرؤية الثاقبة إنه سؤال أرادت أن تطرحه الكاتبة بهذا الإهداء الأسرى… سؤال مطروح فى محاولة أخرى متعثرة يظل معها السؤال !! لماذا تفقد الأحاسيس حياتها حين تبتذلها الكلمات ؟

و إذا كانت اللغة البليغة التى تستخدمها الكاتبة القاصة ” منار فتح الباب “
تؤازر بنيان القصة وتدعم أركانها ، فإن حسن المفارقة هو الأخر يعد من الملامح الجوهرية ، التى تضئ بعمقها طبقات التجربة الإنسانية ، التى كانت تتناولها وتركز عليها فى قصة ” ثقوب الحروف ” وهى من وحى مدينة ” وهران ” بالجزائر الشقيق..
و لعل هذه القصة تظهر قسوة تلك المفارقات بين العائلة العربية وما يكتنفها من توادد وتراحم وعلاقات حميمة ، وبين العلاقات فى العائلة الغربية التى تسودها المادة ولا تزن أمورها وعلاقاتها إلا بميزان المادة الطاغية.

فالفتاة التى على علاقة عاطفية بالشاب العربى يريدها أن نتعلم اللغة الفرنسية وهى تؤكد له إنها تكره اللغة الفرنسية نجد هذه الفتاة تحمل تلك المشاعر الإنسانية الصادقة وحبها للغتها العربية التى ربيت عليها فيشفق الشاب على هذه الفتاة ويواسيها فى وحدتها المفرنسة وأحزانها حين تقول للشاب : ” حكيت لك يومها أنى لا أدرى إن كنت صغيرة وأنى ثرثارة وكاذبة وأننى اكره اللغة الفرنسية واننى لست أفهم كلمة ” الوطن ” تلك التى يرددها كثيراً، و هذا ما تفضحه القصة، من التفكك الأسرى الفظيع الذى تتجرعه المجتمعات العربية التى دام الاحتلال الفرنسى بها من جراء الانجراف فى تيار الآلة الصماء والمادة العمياء .

العلاقات الوشيجة و هى تؤكد بقصتها ” ثقوب الحروف ” هذه العلاقات الوشيجة والراوبط المقدسة التى رسخها الإسلام فى نفوس البشر بين المرء ووالديه إذ قال عز من قائل ” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً. يؤكدها تمسك بطلة قصة ” القطار لا يصل إلى البحر ” والتى تحمل عنوان المجموعة القصصية – التى راحت تبحث وتغوص مفتشة عنها فى كل ركن من أركان اللوحة.. وتقرأ تفاصيل الأشياء ودقائقها التى تشدها إلى تلك البحر الذى أحتضن طفولتها بطحالبه القديمة وطوابير الرمال وقد ترسخت فى ذاكرتها فتشم رائحة ليست عطراً ولا مسكاً، إنها أعظم وأكرم لأنها رائحة الزمن الذى سافر ورحل، زمن الطفولة البرئ.. وحين ينقذها البحر من الغرق فتتشبث ضلوعه بضفائرها حين مالت على الصخور برأسها لتدرك ثقله..إنها تشم رائحة ذكية ليس لها وصف.. الماضى يكتسح الحاضر القلب وحده الذى يهتدى إلى وصفها.

رائحة لها جلال ينسكب فى الروح فيدخلها خشوع يغمرها ضياء.. وحين تدخل القطار تقول ! ” اليوم أعيش وحدي.. أفكر فى ملل.. فى عضلات سائق القطار وقد بدا هيكلاً خشبياً من خلف زجاج أزرق يلون البحر وبدت رأسه كنتوء طحالب شرس ”
تمتلئ القصة بالمفارقات والملاحظات الدقيقة حيث يتدفق مكتسحاً الحاضر، ولكن الحاضر يعود ليتسلل من جديد فتختلط السنوات ، وتتقاطع الأفكار وتدفعنا المؤلفة إلى الابتسام الحزين ، ونحن نشفق على الراوية التى تنتظر قدوم القطار البعيد الذى يحجب أشعة الشمس الغاربة بأفاق المستقبل.

ضمير الغائب الملاصق للبطلة أن الإحساس بالسخرية السوداء، التى لا تصل إلى حد العدمية تسرى فى ثنايا هذه المجموعة الجميلة ” القطار لا يصل إلى البحر ” للكاتبة الفاضلة ، وهى تمثل إضافة إلى عالمها الإبداعى والفنى ، وتضئ فى وعينا لحظات نادرة من الجمال والألم والحلم والحب والصبر والوطنية والعروبة.

الخطاب الكامن فى اللغة إن القارئ لقصص ” منار فتح الباب ” سيجد أنها تثير العديد من وجهات النظر، وتفجر العديد من القضايا فهى تمتلك قدراً وافرا على استبصار الواقع والتعبير عن عوالم لها تركبيها الخاص وعذاباتها وبهجاتها وبهاءتها وطموحاتها للإمساك بذلك العالم الغائب الحاضر، فاستطاعت أن تأخذنا فى مساربها الخفية إلى معنى كلى، وفلسفة شاملة ، وشعور مطلق، وحلم كبير. ازدواجية السرد إننا نرى أن هذه الكاتبة نجحت فى إضافة شئ لهذا الفن الأدبى المراوغ سواء فى البناء المتميز أو فى الجانب اللغوى، فهى لا تتبع سياقاً زمنياً منتظماً ، وأسلوبها لا يعمد إلى السرد المباشر بل إلى ازدواجية السرد.
لهذا استطاعت أن تفرض علينا لغتين مختلفتين، وهاتان اللغتان تدلان على حقيقيتين، وتصلان الإنسان بعالمين مختلفين : –
أولا : عالم الواقع ثانياً : عالم الجبال
و ربما يجد القارئ نفسه فى نفس القارب الذى يطفو على سطح البحر ثم يسير على قضبان السكة الحديد.. سواء بسواء مع شخوص القصص وكأنه واحد منهم، ورد فعله بالضرورة سيحدد وصول القارب إلى شاطئ البحر.
طابع الشخصية فى الأدب إن الأدبية الفاضلة ” منار فتح الباب ” تمتاز بالتوتر.. والتوتر هو قوام شخصية المرأة فالشخصية تعيش توتراً هو مزيج من الفرح والبكاء، ومن الألم والأمل، ومن الحب والكره.

التوتر إذن لدى ” منار فتح الباب ” هو طابع الشخصية الوجودية، والطابع الذى يجب أن تكون عليه الشخصية فى الأدب والفن قمة فى التناسق بين اللفظ والنسق والإيقاع فى رسم الجو واكتمال التعبير، إيقاعات وئيدة، رقيقة الشجن، شفيفة الأنين وبعد… ماذا يمكننا أن نضيف ؟ عالم الكاتبة الجدلى المثير إن مجموعة ” القطار لا يصل إلى البحر ” على درجة عالية من الكثافة فى الجمل والمعانى والكلمات ودلالتها وهذه رؤية جديدة ، وتجربة فنية غنية وممتعة للأديبة ” منار فتح الباب ” كاتبة مقتدرة أثمرت موهبتها هذا التجلى الخصب دون تقليد أو تزييف أو محاكاة لهذه المجموعة القصصية المتميزة التى كشفت عن عالم مثير وغنى وهو ما يعد بالكثير من الإضافة والتميز.

تابعونا على صفحتنا على الفيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى