ثقافهفن

نص” الأماكن كلها مشتاقة ليك ” للكاتب الدكتور محمد صالح.

كتبت: حنان محمد

الأماكن كلها مشتاقة ليك.

عارف قد إيه معني إنك تعاين البؤس، والفقر، والعوز، علي أرض الواقع.
عارف قد إيه إنك ممكن تقابلهم في الشارع وتسلم عليهم بإيدك، وتمشي معاهم أنكجيه لأقرب خرابة، لأقرب خناقة لأقرب أي شيئ، تشوف اللي مش ممكن يجي في عقلك ولا يوصله خيالك مهما كنت شاعر ومهما أوتيت من خيال.

أنا صدقت الإمام علي لما كان بيقول:إذا ذهب الفقر إلي مدينة قال له الكفر خذني معك .

وصدقت الكاتب العراقي الكبير ( الاسم هربان مني دلوقت وياريت حد من أخوننا العراقيين يذكرني ) لما كان بيقول :

أدين لشيئين في حياتي، وهما فقري وسوء تربيتي. لما كان بيتكلم في سيرته الذاتية عن مكان إسمه محلة الطاطران. ويا ريت الإسم يكون صحيح، وده زقاق نشأ فيه في العراق علي ما أذكر .

في المكان ده أنا شوفت إن الفقر بيخليك تعمل أي حاجة وكل حاجة بدأ من عجين الفلاحة وحتي نوم العازب، ورقصة المجنونة، يعني ممكن تبيع صاحبك أو تسلمه تسليم أهالي لأي بلوة او مصيبة، كل الإحتمالات وغير الإحتمالات متاحة، الخناقة ممكن تبدأ من : سلامو عليكم ، والسنجة تطلع.

زي مبتطلع سيجارة من علبة سجايرك، والدم يملا المكان ولا أجدعها نافورة بلدية، وبعد ساعة ممكن تلاقي اللي دمهم سايح بيخمسو في سجارة وكف في كف وايد في ايد وبينطوا سور مع بعض عشان يسرقوا شوية برتقال أو موز أو فرخة تايهة .

العجيب إن بين كل خناقة وخناقة خمس خناقات وينتهو برضو بنفس الطريقة .
في المكان ده مفيش حاجة إسمها طفولة، ولا الأولاد يسمعوا عنها لأنهم بيتولدوا متجاوزين المرحلة دي بكتير جدا .

الناس هنا بتشقي م الميلاد للموت، وغالبا الرزق مش بيعرف طريقهم، ولا بيدق بابهم ، الوشوش ممصوصة والعروق نافرة، والعيون زايغة كأنها في يوم الحشر .

الأشياء اللي ممكن تتقزز منها في أي مكان، هنا بتبقي حاجات طبيعية جدا بل وعادية ومألوفة زيها زي الأكل والشرب اللي الناس برضو بتشقي طول يومها ومش لقياه أو بتحصل عليه بالكاد .

في المكان ده بتقدر تشوف عصر الإنسان البدائي علي طبيعته خالص وبدون أي رتوش، وأن الجمع والإلتقاط والإستجداء والتكيف والتملص والتفكك مازالو بيعملو عمايلهم لحد الآن.

و البيوت بسيطة لدرجة البساطة نفسها أو تقدر تقول إنها شبه بيوت تستر وتداري علي قد متقدر ورغم كل ده الشهامة موجودة، وفيه اللي يبيع نفسه عشانك، واللي يرمي نفسه في النار عشان يطلعك منها، والخسة برضو موجودة، وفيه اللي يبيعك بسيجارة أو بجنية أو بغدوة فول وطعمية وممكن اقل من كده بكتير .

في المكان ده تقدر تشوف البشر علي حقيقتهم تماما لأن المكان ده ميختلفش عن الصحرا في أي شيئن الجدب حواليك من كل ناحية، والحسك والشوك، وتقدر تشوف إن أطول ايدين بتطوله هما إيد الأمن وإيد الإهمال والنسيان .

تجربتي في المكان ده كانت من أثري التجارب في حياتي، وكان لها مردود علي أرض الواقع تمثل في ديوانين شعر وروايتين،

وأنا بعتبرها مرحلة مفصلية في حياتي الإبداعية قراءة وكتابة وتجريب وتعارف وملاحظة وتأمل في كل هذا الإنسحاق البشري، ولأني عايشت فيها كل ألوان الطيف، وإذا كنت مدينا لأحد أكيد حديله حقه إلا هذا المكان اللي إعتقد أني مش حقدر أديله حقه مهما كتبت عنه .

تابعونا على صفحة الفيس بوك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى