الأستاذ
اسمي شحته عبد الدايم الطيب , اعمل نادلا بمقهى الميدان , نعم انه ذلك المقهى الذي يشغل جزءا من الطابق الارضي للبنايه الضخمه الشهيره التي تتصدر الميدان العريق في قلب القاهرة ,أجمع شيوخ الحي ان البنايه وجدت اولا ثم كان التصميم للشارع فالتخطيط للميدان يمكنك اعتباري السكرتير الأوحد للاستاذ صادق عبد الحق او الاستاذ كما اعتدت ان اخاطبه دوما. انا ايضا كاتم اسراره فانت لن تستطيع الفوز بعنوانه او رقم هاتفه الا عن طريقى, باختصار انا اكثر من مجرد نادل في مقهى وارجو ان تاخذ ذلك بعين الاعتبار وتصغى لحديثي بقدر مناسب من التوقير.
عرفت الاستاذ منذ سنوات, كان غامضا للغايه ,قليل الكلام لحد الشح, يأتى للمقهى مترجلا فى تؤدة فى نفس الأوقات تقريبا,يجلس على ذات الطاولة فى ركن المقهى القصى,يستقبل زوارا من خارج الحى يتهامسون بحرص بالغ ويتبادلون أوراقا مطوية بعناية ومع أخر رشفة من فنجان قهوة الزائر كنت ألمح مبلغا من المال يستقر فى يد الاستاذ الرحبة الضخمة وحينها فقط كنت ألمح شبح ابتسامة على وجهه سرعان ما ترحل قبل أن يدس المبلغ فى سرعة وخفة فى الجيب الداخلى لسترتة السوداء الداكنة التى يحرص على ارتدائها صيفا وشتاء مع ربطة عنق عريضة للغاية تنتمى لنمط ملابس ولى و أنقضى.للحق كان الاستاذ لطيفا وسخيا-على الأقل معى- وان استبقى وقارا جعلنى ارتبك ألف مرة قبل أن استفسر عن عمله ولكنى يوما سألته وقد أجابنى الأستاذ.
حدثني الاستاذ
عن اول مره فعلها, كانت مساعده مجانيه لصديقه والذي اختصمه صهره ورماه زورا وبهتانا بانه هاجمه واشبعه ضربا وركلا ثم سارع شاكيا. اقسم الصديق ان هذا لم يحدث وان صهره -ذلك الثور الهائج- هو من بادر بالاعتداء ولكنه كان ماهرا حازقا في فنون الضرب والايذاء فلم يترك في جسده ما يمكن اثباته من اصابات .خلص المحامي لضرورة وجود شاهد على واقعة اعتداء الصهر والا سيكون الموقف القانوني للصديق لا يبشر بخير. لم يجد الصديق اقرب من الاستاذ ليلتمس شهادته فوافق على الفور وانطلق يوم المحاكمه بعد ان اقسم على صدق شهادته ليروي في سلاسة وتلقائية ما لم يراه من احداث .لم يجد الاستاذ شائنا فيما فعله حتى انه روى لي فيما بعد انه خلد لفراشه قرير العين بعد هذه الشهادة واستيقظ مبتسما مستبشرا واسع الصدر .بدلت شهاده الاستاذ مجريات القضية واكرهت الخصوم على الصلح لتنتهي حكايتهم ولتبدا حكايته هو.
سبر لي الاستاذ
غور صندوقه الاسود والذي كان اسودا بحق وسرد بعضا من تفاصيل المرة الثانية عندما هاتفه صديقه -وش السعد كما اطلق عليه لاحقا -وابلغه ان احد معارفه قد تعرض لحادث سير متعمد ولا يوجد شهود على الواقعه ولكنهم على درايه بمن فعلها لسابق خصومة. ذكره صديقه بمدى صدقه في شهادته الاولى وسأله ان يعيد الكره بالشهادة في القضية الراهنة .لم يعطه صديقه ادنى فرصه للمقاومة والممانعة عندما اراد عرض عليه الفا من الجنيهات .ألف من الجنيهات اكثر من عشر اضعاف راتبه الشهري الهزيل الذي يتقاضاه انذاك من عمله الحكومي البائس. لم يتردد الفقير هش الروح خائر الايمان في الموافقة ولم يعنيه صدق روايه صديقه من كذبها في شيء .تذكر الاستاذ كيف جافاه السبات ليله الشهادة وان اتمها ثاني يوم على نحو مذهل استغربه هو شخصيا لدرجه انه حدث نفسه متمتما يبدو اني املك ملكات مدهشة لم اكتشفها ولم احسن استثمارها بعد.
استفاَض الاستاذ
في سرده ولعله كان يبغي فرجا لروحه التعيسة او يلتمس عذرا لأثامه المقيتة. حدثني كيف توالت المرات وتعددت الشهادات واخبرني عن السطوع الحثيث لنجمه في هذا المجال وكيف انجز نجاحات وحقق تفوقا شهد به القاصي والدان ولا سيما بعدما انتهج نهجا مبتكرا حيث كان يهتم بكل التفاصيل ويطلع على كافة الاوراق واحيانا يتأمل بنفسه مسرح الاحداث في تركيز واجلال قبل ان يقرر اذا ما كان سيقبل او يرفض المشاركة. تدفقت الاموال وتبدلت الاحوال ولكن الثراء لم يغيره وصان النعم وظل زوجا مخلصا وابا رؤوما فبارك الله له فيما رزقه حتى حين -اقسم انه هكذا اخبرني.
لا يخلو استاذي من غرابه اطوار فكم من مره ضبطته يطيل النظر الى شاشه هاتفه المحمول محدقا في صورة فتاة فائقة الجمال واكاد اجزم اني سمعته احيانا يناجي الصورة بصوت مسموع واضح. لم اجسر على السؤال ولكنه ومن تلقاء نفسه اجابني ذات مره ,هذه (زهرة) ابنتي ثم اردف بصوت تخنقه العبرات رحمها الله .اخبرني شارد الذهن ان السرطان قد افترس هذا الملاك وهي في ريعان الشباب بعدما انفق على علاجها كل ما جمعه من اموال ,لم ينس لحظات احتضارها الموجعة ونظرات اعينها الذابلة وهي تخاطبه بوهن شديد -ليتك لم تطعمني حراما- نبأني ايضا انه اقسم وعاهد الله ألا يعود لعمله الشائن وصان عهده لمده شهر وحيد فقط وبعده واصل نشاطه بعدما ضاعف اجره ليعوض خسائره
عاصرت بنفسي المرة الثانية التي عاهد فيها استاذي الله الا يعود لعمله الشائن بعدما تعافى من نوبة قلبية حادة خرج بعدها من العنايه الفائقه بثلاثه دعامات لقلبه والذي ارهقه بالتفاني والاخلاص لمهنته الاثيرة .هذه المرة حافظ الاستاذ على عهده لمده شهرين تامين ثم لم يلبث ان واصل نشاطه بعدما ضاعف اجره ليعوض خسائره.
موعدا للاستاذ
كان يوما حارا لزجا من ايام اغسطس الفظة عندما نسقت موعدا للاستاذ مع معلم ذو شارب ضخم وفد من احدى محافظات الجنوب, كان عرض المعلم مغريا للغاية, ببساطه كان اكبر مبلغ قد يتقاضاه استاذي طوال حياته والتي شارفت على الانقضاء .حضر الاستاذ كعادته في موعده تماما قاصدا طاولته الاثيره .أمتد اللقاء لمدة تلائم المبلغ الضخم والمهمه الجسيمة وبعدها غادر المعلم بعدما ترك مبلغا ضخما لم يكن من اليسير على الأستاذ دسه في جيب سترتة السوداء الداكنه ولاول مره يطلب الاستاذ كيسا اسود اللون لستر المبلغ كعادة البعض. اغدق الاستاذ علي مبلغا محترما وابلغني وهو يغادر المقهى انه سوف يغيب يومين في احدى المحافظات الجنوبية وان هذه المهمة ستكون ختام مسيرتة المهنية وسوف يعاهد الله تعالى على توبة نصوح ليس بعدها ردة وانه مطمئن ان الله سوف يقبل توبتة ويعينه على انابتة.
الاستاذ
مر اليومان ولم يظهر الاستاذ. لم اكن اهاتفه الا لضروره بناء على تعليماته ولكن بعد ايام ثلاث تخليت عن حذرى وهاتفته , لم اتلق ردا فلا جرس يدق ولا رساله اسمع وكأني اخاطب الصمت. ادركت ان امرا جللا قد وقع ولا ادري لماذا تذكرت الان ملامح وجه المعلم الجنوبي المتقلصة وهو يسال اول مره عن الاستاذ ولمعة عيونة العابرة وقتما اخبرته بالموافقه على اللقاء ,لا ادري لماذا تذكرت ايضا اني لم اهتم كثيرا بالتحري والتقصى عن المعلم الجنوبى كما هى عادتى فكم كنت اتوق ان يقبل الاستاذ المهمة لافوز بمبلغ معتير.
اثرت السلامه تماما فانا تلميذ نجيب لاستاذي فلم اعاود مهاتفته مجددا ولا استفسرت عن غيابه في منزله او عن طريق معارفه القلائل الى ان كان الخبر الذي ترقبته منشورا فى صفحات التواصل الاجتماعي عن العثور على جثه عند سفح جبل احدى المحافظات الجنوبية لذكر خمسيني توصلت تحريات الشرطه الى ان اسمه صادق عبد الحق وقد ابلغت اسرته عن غيابه منذ اسبوع مضى وأردف الخبر ان الشرطه قد تمكنت من القاء القبض على عدد من المشتبه بهم وقد اعترف احدهم بعد تضييق الخناق عليه انه من فعلها انتقاما حيث سبق لصادق عبد الحق الشهاده ضد اخيه تاجر الفاكهه بالقاهره والذي نال بعدها حكما بالاعدام
يا لقسوه الاقدار!!, اظنك يا استاذي كنت تستحق نهايه اكثر لطفا, سافتقدك كثيرا وسافتقد جلستك الهادئة على طاولتك الاثيره في ركن المقهى القصى واعدك ان لن يشغلها احدا بعدك.
المخلص شحته عبد الدايم
تابعونا على صفختنا الفيس بك