ثقافةقصص

قصة كتابة نص سردي.. “انتباه” للأديب محمود عرفات.

كتب: حنان بعرور

ذات ،مساء من شهر أكتوبر عام 2009م التقيت مصادفة بالدكتور اللواء أركان حرب توفيق علي منصور، حيث كان يحاضرنا، في اتحاد كتاب الغربية بطنطا، عن انتصار أكتوبر ثلاثة وسبعين. سألته في تفاصيل بعض العمليات القتالية، وبعد انتهاء المحاضرة اقتربت منه فقال لي: يبدو أنك حضرت الحرب. فرددت عليه بالإيجاب، فانفتحت طاقات الحوار، وسألته عن قائدي في الحرب، العقيد أركان حرب عثمان كامل، ففاجأني: هو دفعتي في الكلية الحربية، ونلتقي مع كل أفراد دفعتنا في شهر رمضان سنويًا. فطلبت أن يعطيني عنوانه، فقال ببساطة: تستطيع أن تقابله في موعد الغداء بدار المدرعات بالقاهرة.

توجهت إلى دار المدرعات “سمعتُ دقات خطواتي على الأرضية اللامعة فتذكرت وقعها على شاطىء القناة. اقتربت من الباب الزجاجي فانفتح بغير صوت. مرقت فانغلق خلفي بهدوء. مسحت المكان الواسع بناظري. تقدمت ببطء يليق بزائر. توقفت أمام موظف الاستقبال الذى استقبلني بابتسامة ترحيب ثم دلني على ركن بعينه.” راحت عيني تجول في المكان وفكري مشغول “سرحت محاولا أن أتخيل الرجل.. كيف صار؟ ما زالت صورته الطافية على سطح ذاكرتي كما هي.. رأس تنحو إلى الصلع ووجه أحمر ورقبة سمينة على جسد قصير ومتين”. راحت الأفكار تناوشني، وغلبتني الأسئلة الغارقة في فيض الذكريات “كيف أقدم نفسي؟ بل كيف أعرفه بعد هذه السنوات التى اقتربت من الأربعين؟ يااااااه عمر ثاني.. وإذا ميزته.. فهل يتذكرني؟ ذكرياتي تنتفض فتخزني بدبابيس الحنين والشوق والزهو. تزاحمت المشاهد في خاطري.. مازلت أذكر ذلك اليوم من ربيع ثلاثة وسبعين. كنت أقف معه أمام مكتبه. قال كأنه يحدِّث شخصا مجهولا: حرب ستة وخمسين قامت وكنت وقتها قائد سرية.. ولمَّا أصبحت قائد كتيبة قامت حرب سبعة وستين.. اليوم وأنا قائد لواء ماذا سيحدث؟ انتظرت أن يكمل، لكنه غيَّر الموضوع.. فى أواخر سبتمبر استدعانى.. كنا فى أول المساء. أديت التحية فأشار إلى مظروف مغلق وأمرني أن أفتحه. فتحت المظروف فأكمل كلامه: اقرأ وأسمعني. قرأت عدة سطور فتغيَّر صوتي. أشار بيده فتوقفت. قال بهدوء: لعلك فهمت.. هذا الأمر الإنذاري يخصك. شعرت أن الدم يندفع إلى رأسي ويشعل الحرارة في وجهي. بحثت عن صوتي فلم أجده. فاجأني آمرًا بود: اقعد. جلست على طرف المقعد المجاور. واصل حديثه: تصرف حسب الخطة وابدأ العمل فورًا. قمت أُلملم أفكاري. تجاوزت الخدمة الليلية، ونظرت إلى المظروف الذى تزينه علامة “سرى للغاية”.. فأحسست أنني أنوء بحمل ثقيل. نظرت إلى السماء فلمحت هلالًا يمضي نحو المغيب.. وتوهج في رأسي خاطر أن الوقت قد حان.. فشعرت ببرد شديد يعصف بي.”
شعرت بأن لحظات الانتظار تمر ببطء، فعاودتني صور وأحداث ما جرى ” فى اليوم التالي أصدر أوامره بإلغاء الطوابير والتجمعات. بعد يومين استدعاني وأمرني دون مقدمات: افطر فورًا وأبلغ تعليماتي لكل الوحدات بالإفطار.. شكِّي أصبح يقينًا. لم أناقش. أفطرتُ وأبلغت الأوامر و.. فيما بعد ضحكت من سذاجتي. فقد أدركت أننى ربما كنت المفطر الوحيد في الجيش المصري. في صباح اليوم الثالث ذهبت إلى مركز قيادة اللواء على حدود الأرض التي حررناها من سيناء. اقتربت فرأيتُه يحلق ذقنه أمام مرآة بحجم الكف ترتكز على مقدمة الدبابة. هدوء أعصابه منحني طمأنينة غامرة. لمحني فناداني بإشارة من يده.. اقتربت فسألني عن أحوال المنطقة الإدارية.. سمع تقريري باهتمام ثم صرفني.”
أفقت من سرحتي حين وصل الرجل “انتبهت فإذا الباب الزجاجي يُفتَح.. ولمحت بضعة أفراد يعبرون المدخل ببطء. دققت النظر.. ثلاثة رجال يحيطون به يساندونه وهو يمسك بعصا معدنية لامعة ترتكز على الأرض بعدة أرجل. ينقل قدميه ببطء شديد. انحناءته لم تُخفِ ملامحه. إنه هو.. بصلعته التى اكتملت ووجهه الأحمر وعينيه الباسمتين ورأسه المدور. لم يتغير كثيرًا. هممت أن أخطو نحوه لكني تجمدت بين الإقدام والإحجام. أردتُ أن أقف أمامه “انتباه” مؤديًا التحية العسكرية لعله يتذكرني بعد كل تلك السنين. اقترب من ركنه المفضل فبدا كأنه يتجه نحوي. ظللت واقفًا حتى جلس على مقعده الأثير وتنهد في ارتياح كأنه أنجز مهمة كبيرة. اقتربت منه ببطء. انحنيتُ مقتربًا ومددت يدي مصافحًا. همست باسمي وأضفت: اللواء الرابع عشر. رفع وجهه نحوي فى ود واتسعت ابتسامته. قال بلهجة ودود تضج بالفرح: أهلا وسهلا.. تفضل. جلست بجانبه أتأمل ملامحه عن قرب. قلت له: هل تذكرتني؟ قال: تذكرتك لأنك نطقت بكلمة السر”. ودار بيننا أول حديث بعد انقطاع دام سبعة وثلاثين عامًا “قلت: معى هدية لسيادتك. نظر نحوي باهتمام. قدمت له اسطوانة كمبيوتر.. هذا كنزي الصغير.. الاسطوانة مسجل عليها أحاديثك وتعليماتك لضباط وجنود اللواء قبيل الحرب” وواصلنا الحديث.. “سألني برقة: حدثني.. ماذا فعلت في حياتك. انفتح صنبور الذكريات.. وتدفقت منه حكايات. أصغَى بانتباه ثم قال: وماذا تفعل الآن. قلت: أقرأ وأكتب وأغشى المنتديات الثقافية وأنشر كلما تيسر ذلك. أشار لأقترب منه قائلًا: تعال لأريك ما أفعل هذه الأيام. فتح حقيبته وأخرج كومًا من الأوراق.. انتقى بعضها وبسطها على الطاولة فأدهشتني الرسوم. قال: أقضي وقتي في ممارسة هوايتي. أراني زهورًا مرسومة بألوان مبهجة.. وبورتريهات لوجوه متعددة قلت: الله الله. نظر نحوي بريبة فقلت: لم أجاملك يا سيادة اللواء. فاجأني بأن نظر في وجهى متأملًا ثم قال: لم تتغير كثيرا.. ما رأيك.. سأرسم لك بورتريها.”
وفي ذلك اليوم حصلت على إجابة السؤال الذي كان يشغلني منذ انتهت الحرب.. تشجعت وسألته، فأكد لي بعبارات موجزة ودقيقة أنه تم تسجيل شهادات القادة عن وقائع الحرب، صوت وصورة، فارتاح قلبي.

استوحيت من مقابلتي له قصتي “انتباه” التي مزجت فيها الواقع بقليل من الخيال، حيث حضر أحد القادة المصابين في الحرب فجعلت إصابته ثلاثية لتوضيح أن الجروح هي نياشين يحصل عليها المصابون.. صاح القائد “جئت فى وقتك يا سيادة العميد.. وأشار نحوي: هذا رجل حارب معي.. جاء ليراني بعد سبعة وثلاثين عامًا. اقترب الرجل فانتفضت متمتمًا بكلمات ترحيب وتقدير. نظر نحوي بعمق ثم صاح فى غير تصديق: حرب إيه.. أنت عيِّل. ضحكت فى خجل بينما علت قهقهاته.. نظر نحوى اللواء وقال وهو يشير إلى العميد: هذا هو صاحب النصر الحقيقى. التفت العميد نحوي وحدثني: تعرف أن سيادة اللواء يحمل نجمة الشرف.. لكني أحمل ثلاث نجوم.. ساق مبتورة وذراع عاجزة وعين واحدة اكتفت بما رأته قبل الحرب”.. “انشغل الرجلان فى الحديث. راقبتهما وهما يتكلمان بود.. فانطلق خيالي.. مغادرًا المضيفات الحسناوات، والأبواب الزجاجية الآلية، والحوائط الرخامية، والأرضيات الملونة الناعمة.. لأرى القناة.. الحلم الذى تحقق.. وتوغلنا نحو الشرق فى الصحراء الواسعة.. وغبار المركبات والدبابات.. وأصوات الانفجارات.. وغارات الطائرات.. وصيحات الاستغاثة.. والأجساد المشطورة.. والجراح النازفة.. والضحكات الممزوجة بدموع الخوف والأمل. وعدتُ.. على عيني ستارة من دموع.. وفى حلقي بقايا من رمالٍ ناعمة”.
نشرت “انتباه” ضمن مجموعتي القصصية “الخسوف” الصادرة عن دار الآداب بالقاهرة عام 2013م.

تابعونا علي صفحة الفيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى