دراسة نقدية في مؤتمر اللغة العربية عن “جمل الليل ” للشاعر الكبير أحمد إبراهيم عيد
كتبت : حنان محمد
جمل الليل
[ يغيبُ.. يغيب.. ويرجع بالنفحة الطالعة.. ويُكثرُ من زهـزهاتِ الحروفِ.. لعل” المقاماتِ “.. تـُثمرُ عبرخريف البلاد ِ.. وتـُرجـِع.. بسـمتنا الضائعة ]
تطلع علينا من حين ٍ لآخر بعض المقولات التنظيرية الجدلية التى تقيِّم المشهد الإبداعى الأدبى فى عالمنا العربى ، والتى منها أن الشعر لم يعد ديوان العرب كما كان ، وأننا نحيا الآن فى زمن الرواية ، وتناسى البعض أن العمل الإبداعى الجيد بلغته الواعية البنَّاءة وبصياغته الحية الهادفة ، يدحض كل هذه المقولات ، ويُنظـِّر هـو لنفسه ، فضلا ً عن معالجاته الخاصة لقضاياه المطروحة ، ونحن إذ تُطِل علينا هذه الرواية / الديوان ” الطوراة ” لكاتبها الروائى والناقد ” أحمد عزت سليم ” ــ الذى نحت اسـمها من مـادة ( ط َ وَ رَ ) ليتفاعل عنوانها مع أطوار الصراع الدامى الرهيب الممتد بالمتن الروائى ــ نراه وقد مزج بناءها الدرامى بلغته الرصينة الجزلة ، وبذلك العبق الشعرى التراثى الساحر ، ولكن بصياغة ٍ سلسة ميسرة تأخذ المتلقى ببساطتها إلى قضية ٍ من أعقد القضايا القديمة / المعاصرة فى آن ٍ واحد ، ألا وهى : سطو العنصرية وجرائمها،ومحاولات هيمنتها الدائمة على مُقدَّرات غيرها . وصاحب “الطوراة” من المتبتلين الدائمين فى محراب الأوجاع الإنسانية عامة ً، وأوجاع وطننا الكبير خاصة ً، ولكن خصوصيته الأشد ، تتجلى فى مِداد يراعه الذى لا ينطلق إبداعيا ً إلا من أجواء بلدته العبقرية بسحرها الخاص، المرتبط بتاريخها الممتد فى المقاومة الواعية .
تنطلق أحداث ” الطوراة ” ــ التى هى سِفـْرٌ هام من أسفارالمقاومة ” أدبيا ً”ــ وقد احترق الهلال الخاص بمئذنة ” جامع الخبى ” الكائن فى أعرق أحياء ” المحلة الكبرى ” ، ومع اندفاع الأهالى صوب المسجد لاستطلاع الأمر…..
” كان وهج الحريق يرتفع حتى يجاوز عنان السماء ، لكنه لا يجاوز أبدا ً خصلات شعر تيسير المتطايرة فى الظلمة المُتبدِّدة بشـرر الحـريـق ، قـبل أن يصـل أحـد إلى الـمـسـجد كان ” تيسير” وحده واقفاً بباب المسجد، ينظر إلى المئات المتدفقة عن بُعد.. ويبتسم ” صـ 8
وهكذا يتصدر ” تيسير” المشهد بقامته وهيئته المهيبة ، بعد غيبته الطويلة ، ثم هاهو يختفى وسط هالة ٍ من النور البهى ، ليظهر فى السرداب المجاور لضريح ” الخبى ” وإلى جواره ” حوراءٌ ” تغنى…..
( حسناء تحمل حسناوين فى يدها … صاف ٍمن الر اح فى صافى القوارير )
فاتحا ً بابا ً واسعا ً للتساؤلات :
لمَ يظهر بعد غيبته الطويلة مُصاحبا ً لاشتعال هلال المسجد ؟ وما سر ابتسامته ؟
وماذا وراء اشتعال الهلال لمسجد ” الخبى ” ؟؟!
إن الملابسات التى تصاحب ظهور ” تيسير” تؤكد مشروعية هذا التساؤل داخل المتن الروائى ، بل ومن المتلقين أيضا ً خارجه ، ومن العجيب ، أن هذه الملابسات إلى جانب التوصيفات الأخرى لشخصية ” تيسير” داخل النص ، فجَّرت الكثير من التفاعلات المتباينة التى عايَنتـُها وعايشتـُها شخصيا ً بعد ظهور رواية “الـطـوارة” أقسم لى أحد الشعراء البارزين بمدينتنا أن هذا الـ” تيسير” هو أحد أقربائه ، ويقسم شيخ آخر أن ” تيسير” بمواصفاته الروائية ذاتها كان يُحفظه القرآن وأسرار اللغة ، وهو صبى !!! ويقسم شيخ ٌ ثالث أنه حج إلى بيت الله وهو شاب صغير، ورأى ” تيسير” بذات هيئته الحالية متعلقا ً بأستار الكعبة !!! [ بهذه التداعيات الذهنية ، أصبح تيسير ” شخصية أسطورية ” ] ولا عجب فيما أقسموا عليه ، فـشخصية ” تيسير” مع غيرها من الشخصيات الأسطورية المجاهدة عبر أحداث ” الطوراة ” ينتشرون ــ بأمر الله ــ فى كل زمان ٍ ومكان ، وقد أحسن الكاتب فى رصده وتصويره للممارسات العجيبة المدهشة التى تمت أثناء جولات جهادهم .
وعلى الرغم من اعتماد الرواية على الرؤية التاريخية البانورامية الأسطورية فى معالجاتها لهذا الموضوع ، إلا أن كاتبها ــ المحافظ دائما ً على موروثه من تراثه العربى الأصيل ــ ألبسها فى صياغته الخاصة ثوبا ً شعريا ً فضفاضا ً ، تتعدد فيه كل الأغراض الشعرية ، من سرد ٍ حكائى شعرى ، إلى شطحات ٍ تصويرية شاعرية مُحلِّقة فى فضاءات النص، إلى إعمال ٍ للفانتازيا بالخيال الشعرى المُوظَّف فى تصوير الدراما ، إلى هدهدة المشاعر بالدفقات الشجنية حال الأزمات ، إلى حواريات ٍ بين الشخصيات على قدر ٍ عال ٍ من الشاعرية ، إلى استحضار الحكمة والفلسفة مع الفخر المشروع من تراثنا الشعرى ، كل ذلك تحمله لنا لغة هاضمة لبلاغة المعانى الصوفية المُحمَّلة بأكبر قدر ممكن من الدلالات الخاصة التى ترقى بمضمون النص الروائى بصراعاته المتواترة ، ولا أدل على ذلك من هذه الغنائية الشجية التى يسمعها بطل الرواية ” الشيخ جميل ” من أخته ” جمل الليل ” تلك الشخصية المحورية التى تُفجِّر أحداث الرواية بفجيعتها فى زوجها وولدها ونفسها ، بعد أن يحتال عليهم ذلك الطبيب العنصرى ــ طمعا ً فيها ــ فينفى زوجها ” محمود ” ، ويقتل ولدها الأول ، ولا يبقى لها إلا ولدها ” محمود ” فتناجيه ــ فى حضرة خاله ــ بأنشودة ٍ شجنية ٍ مطوَّلة ، منها :
” لعمر أبيك لا أرض لنا.. غير الشراك.. إنها الآن سجن يعتقل.. مهرتك والثمار.. والبرارى التى رويتها.. بالمياه والحلم والصباح.. خذ الآن سرى.. واحمل دمائى ولبان الطعان.. حتى تئض نارا ً يا محمود ” صـــ 40
ولا يكتفى ذلك الطبيب العنصرى باغتصابها ، ولكنه يُهديها أيضا ً لأميرالايات البر والبحر والجو ، فيستبيحون هم أيضا ً ــ فى عنصرية ٍ فجة ــ أجزاء ً من جسدها ، فتنتهى فجيعتها بالانتحار بين يدى أخيها ” الشيخ جميل ” بعد أن تـُودعه أملها الباقى ” محمود ” الذى يعمل ــ بعد ذلك ــ مع رفاقه على مواجهة قوى العنصرية الصهيونية التى تتحالف مع قوى القهر الأخرى المتربصة داخليا ً وخارجيا ً. والرواية لا تتوقف بنا أمام فاجعة ” جمل الليل ” ــ التى تفجر الأحداث ــ أو ما يماثلها من كوارث أخرى ، ولكنها تـُبحر بنا مع شخصياتها الأسطورية فى الأزمنة المختلفة عبر التاريخ لتعرض للمتلقى ــ خـاصة ً الـشـباب الـمُـغـيـَّب عـولـمـيا ً الآن ــ بانوراما تاريخية للعنصرية الصهيونية ، وذلك فى طرح ٍ روائى ٍ جديد ومشوِّق ، يسعى لإماطة اللثام عن جرائم هذه العنصرية ، التى تعمل دائما ً على السيطرة على مقدرات وخيرات غيرها ، ونفى الآخر عن الحياة المستقرة بشتى الوسائل ، القتل ــ الاغتيال ــ الاضطهاد ــ الجنس ــ الاستبعاد …إلخ .
وإبحار الشخصيات الأسطورية عبر الزمن الروائى ، يصاحبه دائما ً تنويعات ٍ معرفية متواترة واضحة ، تبدأ بظور ” الشيخ جميل ” ذى الخلقة العظيمة والخارقة للمعتاد ، وارتباطه بـ ” نوح ” عليه السلام ، وكذا تعليمه أسرار اللغة العربية لـ ” عمليق ” ، ثم مجاهداته المتلاحقة المختلفة ، إلى أن يرفض أمرا ً لـ ” النمروذ ” بحمل الحطب لإحراق” ابراهيم ” عليه السلام .
وفى هذا إشارة واضحة ــ فى الرواية ــ إلى أن الفكر العنصرى لم يسلم منه أحد حتى الأنبياء ، الداعين للهدى والخير.
ومع رفض ” الشيخ جميل ” للأمر ، يحبسه النمروذ فى قفص ٍ حديدى ، لم يـُخرجه منه إلا ” الخضر ” عليه السلام بمصاحبة ” موسى ” عليه السلام فى رحلتهما الشهيرة ، وهذه الاتكاءات الدينية على شخصياتٍ وأحداث ٍ هامة فى التاريخ العقائدى الحق للبشرية ، تعنى هنا الإعداد الجيد ، المقصود من الكاتب ، فى رسم شخصية ” الشيخ جميل ” ذلك المجاهد الأسطورى ، الذى يواجه ويجابه هو وأتباعه مثل ” ابراهيم الدهليز ” و ” جمل الليل ” و” وجه الصباح ” و تيسير ” وسائر رفاقهم ، قوى الشر العنصرى المتمثلة فى تلك الشخصية الأسطورية الشريرة ” المسيا ” وأتباعه مثل ” راحبعام ” و ” ابراهام كوهوت ” و ” عزيزة ستيلا ” و ” يوسف هارون ” وأعوانهم من أمثال ” حسنه العرسايه ” و ” مسعود القويرى ” و ” الدكتور شيرين .
والكاتب يضفى أيضا ً على أبطال روايته ــ من المجاهدين ــ هالة نورانية تتماشى مع طبيعة وأسلوبية جهادهم الأسطورى ، ومثال ذلك ، حينما يلتقى ” الشيخ جميل ” بشيخه الصوفى ، وقت فتح الإسلام لـ” البصرة ” فى مشهد ٍ من الفانتازيا الصوفية ، ينتهى بحوارية مطولة بينهما ، تحمل الكثير من الإسقاطات الصوفية على واقعنا المهترئ ، منها :
” قال : ما السكينة ؟.. قلت : فجرٌ لا يقوم.. كسل ودعة وتلذذ بالوداعة.. واستسهال للراحة فى ظلمة الليل ، قلت : ما السلام ؟.. قال : بذل الرضا من الرب.. لا من العبد ، قال : ما الطريق ؟.. قلت : فجر تسربل يشتهى الخروج.. يشعل القناديل.. يكشف الأسرار ” صـ 57
هذه فقط بضع كلمات ٍ من حوارية ٍ طالت ما بين المجاهد الأسطورى وشيخه . وإذا كانت المستويات المتنوعة لرسم الشخصيات ، مابين شخصيات ٍ أسطورية ٍ فاعلة عبر الأزمنة المختلفة فى الرواية ، وشخصيات ٍ ورموز دينية ، وشخصيات ٍ تاريخية مشاركة فرعونية ٍ كانت أو إسلامية ، وشخصيات ٍ معاصرة محركة للأحداث ، شريرة كانت أو خيِّرة .
وإذا كانت كل هذه الشخصيات قد ساعدت على اتساع الرؤية البانورامية، عبر الأحداث ، فقد ساعد على ذلك أيضا ً، تعدد الأمكنة والبلدان التى اشتملت على المواجهات بين الخير والشر ، مثل :
عكا ـ أريحا ـ كفر قاسم ـ مالطة ـ الاسكندرية ـ ” الغورية ” القاهرة ـ ” نقرة صبحه ” و ” جامع الخبى ” المحلة الكبرى … إلخ .
وهذا التنوع المكانى والزمانى جعل الرواية : ككائن ٍ حى ، أطرافه كل هذه البلدان ، وقلبه النابض هو ” جامع الخبى ” الذى يأوى إليه وينطلق من سراديبه السرية أبطال الجهاد. ومن أمثلة هذا الجهاد ــ ذو الطابع الأسطورى ــ مشاركة ” الشيخ جميل ” و ” ابراهيم الدهليز ” مع رفاقهم فى الدفاع عن ” عكا ” حال سقوطها بالخيانة ، وارتفاع عدد الضحايا منهم ، وهاهو ” ابراهيم ” عند استشهاد المجاهدة ” وجه القمر ” نراه وهو ينعيها مع الرفاق فى مشهد حركى دال يصوره الكاتب هكذا …..
” يتمدد ” ابراهيم الدهليز ” ويفرد ذراعيه ويضم رجليه على بعضهما البعض ، ثم يمتد واقفاً على هيئته هذه، و” الشيخ جميل “واقفٌ وسط الجموع يبكى ” صـ 139
ونلاحظ أن الكاتب هنا قد استخدم الوحدة المشهدية والدلالة البصرية ، المتماسة مع قصة الصلب الشهيرة ، فى إشارة إيحائية إلى ذلك التوحد الإنسانى ضد كل أنواع الخيانة والعنف ، من أؤلئك الساعين بشتى الوسائل لاستلاب خيراتنا ومقدراتنا. بعد هذا المشهد ، يأوى ” الشيخ جميل ” و” ابراهيم الدهليز” ورفاقهم إلى جامع الخبى ، فى حالة من الاستعداد الجاد ، انتظارا ً لدورة أخرى من دورات الجهاد ، وبالفعل ينطلقون لمقاومة ” الفرنسيس ” فى بر مصر ، ويبرز دورهم فى اندحار الحملة الفرنسية ، وانكسارها أمام ” عكا ” ، وهكذا الحال فى دورات جهادية أخرى ، تنتهى بانتصار أكتوبر 73 .
وإذا كانت أسلوبية السرد التى قامت على استدعاء الكثير والعديد من الشخصيات والأمكنة المتماسة تاريخيا ً مع المقاومة المستمرة للعنصرية الصهيونية ــ عبر الحقب الزمنية المختلفة ــ بهذا البعد الأسطورى ، تتطلب من المتلقى نوعا ً ما من الثقافة الدينية والتاريخية والجغرافية الواسعة ، فإن الكاتب قد يسر الأمر على المتلقى فى بنية روايته ، بتقسيمها إلى ثلاث أقسام ( الأبد ــ الحين ــ الأوان ) وكل قسم يحتوى على عدد ٍ من المقامات ، وكل مقامة تحتوى على عدد ٍ من الأقسام بعناوين جانبية ، كل ذلك بهدف تيسير التداخل والتمازج الفنى بالاسترجاع والعودة والتقديم والـتأخير عبر أزمنة الرواية المختلفة ، وفى بعض الأقسام استخدم أيضا ً تقنية ، النص الهامشى الموازى للنص الأصلى كما فى قسم ” عش الأولياء ” وقد استخدم أيضا ً تقنية دائرية الأحداث مع بدايات ونهايات الأقسام الثلاثة .
رواية ” الطوراة ” ، رواية من العيار الثقيل ، ليس لكبر حجمها نسبيا ( 464 صفحة ) ، وإنما لما تحتويه من زخم فكرى ووجدانى واجتماعى وسياسى ، وقد أنفق كاتبها سنوات عديدة فى الإعداد لها وفى كتابتها ، حيث أنه من الكتَّاب النادرين فى انقطاعهم لمواجهة الفكر العنصرى برؤية ثاقبة على مستويات عديدة ، وهى تعدّّ وبحق مرجع ثقافى على مستوى المهتمين المخلصين لهذه القضية ، ولكنها فى ذات الوقت ، رواية صعبة التناول على من يتداولون الأعمال الروائية للمتعة والتسلية فقط . بقيت إشارة عابرة ، ولكنها هامة : فى إحد اللقاءات رأيت ” أحمد عزت ” يُهدى روايته لأحد أصدقائه من الأدباء الغارقين مثله فى أنواء هذه القضية ، وراقبته وهو يكتب الإهداء ، وجاء الإهداء هكذا.. [ لكم هذه الطوراة ، قطعة من الأمل ، علنا نتجاوز معا ً أقدارنا ] وأحمد عزت ــ بروايته هذه ــ نموذج يحتذى ، فهو أديبٌ لا يسعى للشهرة ، ولو أرادها لكانت له ، أديب لاينفق وقته عبثا ولا سدى ، ونحن فى انتظار إبداعاته الروائية ــ الهادفة ــ القادمة .
تابعونا علي صفحة الفيس بوك