
سيسامنيس
إن قيمة الفن تقاس تبعاً لمقدار ما نشعر به إزاءه من لذة ، وقد يظن المرء أن من الواضح أن الأعمال الفنية تكون جيدة إذا كانت تجلب لذة، ورديئة إذا لم تكن كذلك، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نحكم على الأعمال التراجيدية، مثل “ماكبث” و” أوديب” ويتلاقى معهم ” سيسامنيس” للكاتب الروائي أحمد عبدالله إسماعيل.
دائما ما يقال إن النقد الجمالي “منزه عن الغرض” ، وتلك هي الحقيقة، ولكنها لا ترفض الواقع، بل ترفض الإغراق في تفاصيل متعلقة “بالحياة الواقعية” لا ترتبط مباشرة بالعمل الذي نتذوقه أو ننقده، وصحيح أن هناك أنواعا من الفنون، كالروايات والمسرحيات بوجه خاص، تحيلنا في كثير من الأحيان إلى ميدان الحياة الواقعية، ولكن من الواجب ألا نخرج عن نطاق العمل، وننتقل إلى مجال الواقع إلا بقدر ما يكون ذلك عونا لنا على فهم ما هو موجود في العمل ذاته، ومعنى ذلك أن الأعمال النقدية التي تستطرد في الكلام عن شخصية الفنان، أو وقائع حياته، أو ظروف مجتمعه، دون أن تربط بين ما تقوله وبين العمل الفني ذاته، ودون أن توضح بطريقة مقنعة تأثير هذه الوقائع في العمل وكيفية انعكاسها عليه، لا تعدو أن تكون استطرادات ذات قيمة تاريخية أو نفسية أو اجتماعية، ولكنها ليست نقدا فنيا بالمعنى الصحيح().
أولا: العتبات الاستهلالية في الرواية:
عتبة الغلاف:
يمثل الغلاف المفتاح البصري الذي يفتح أفق التوقعات، ويثير التساؤلات حول المضمون، صدر الكاتب صفحة الغلاف بمشهد تراجيدي يرمز إلى العدالة والفساد والعقاب، ومن خلال التحليل السيميائي للغلاف يمكننا الكشف عن العلاقة بين العناصر البصرية والرمزية التي تعكس أبعاد النص، فإذا توقفنا قليلاً عند المشهد البصري نجده يجسد صورة القاضي سيسامنيس، مستلقياً على طاولة خشبية، في حالة من الاستسلام التام، مع الجروح البارزة في جسده، مما تعكس لحظة الخضوع أمام العدالة الإلهية أو الملكية، ويثير في الوقت ذاته مشاعر الخوف والشفقة لدى المتلقي، مما يدعم الدراما المأسوية، ويؤكد فكرة المعادل الموضوعي لشخصية المستشار ماجد.
وإذا انتقلنا إلى الشخصيات المحيطة بسيسامنيس فإننا نجد ردود الفعل تختلف بين الحزن واللامبالاة والصدمة مما يعكس تعدد وجهات النظر تجاه العدالة، ويشير إلى الصراع بين الرحمة والانتقام.
ومما يستجلي روعة المشهد الإضاءة المسلطة على سيسامنيس مما يعكس انكشاف الحقيقة وانتصار العدالة في النهاية، كما يظهر اللون الأحمر في الجروح الظاهرة على جسد سيسامنيس الذي يعبر عن العنف والعقاب، مما يضيف بعدا دراميا قوياً، لكنه يحمل أيضا دلالة على التضحية، حيث يتحول جسد القاضي إلى أداة لإرساء قيم العدالة.
عتبة العنوان:”سيسامنيس”
أحسن الكاتب اختيار اسم القاضي الذي تعود حكايته إلى القرن السادس قبل الميلاد، مما يؤكد رمزية القصة بوصفها حكاية فردية تحمل أبعادا إنسانية شاملة، وقد طلاه الكاتب باللون الأبيض الذي يرمز للسلام والعدالة الإلهية، وقد تحققت بالنهاية المؤلمة.
ومن حيث البناء الأسلوبيّ نجد أن الاسم احتوى على ثلاثة أحرف متماثلة ألا وهو “السين” الذي يرسم بشكل واضح طبيعة عمل الشيطان الوسواس، وذلك إن دل فإنه يدل على الضعف والجبن والخداع.
عتبة الإهداء:
بدأ الكاتب الإهداء ب صيغة شبه الجملة وصلة الموصول، في قوله
إن تكرار شبه الجملة وصلة الموصول أربع مرات، يضفي طابعا إيقاعيا على النص مما يزيد من تأثيره العاطفي على القارئ، كما يستخدم لشد الانتباه إلى الفئات المختلفة التي يتوجه إليها الإهداء، ما يعزز التركيز على كل فئة أو حالة محددة. فمثلا:” إلى الذين يلبسون أقنعة الزيف بقلوب غير مبصرة”
“إلى الذين يقبضون على الضعفاء بأيد غير مرتعشة” فالجملة الأولى تؤكد حتمية توجيه الكلام إلى ذات بعينها، ألا وهي” الذات الإنسانية الفردية المستبدة “فالأقنعة” تمثل الزيف والنفاق، لأنها تمنح الفرد القدرة على إخفاء هويته الحقيقية والتظاهر بشيء غير حقيقي، أما ” القلوب غير المبصرة” فترمز إلى القتامة والعمى عما يدور في الواقع.
وعندما تتكرر الجملة نستشعر أن الخطاب موجه إلى فئة جديدة، ولكننا نتفاجأ بكسر أفق التوقع عندما يعيد التوجيه مرة أخرى إليها، “أما الذين يقبضون أيديهم فتوحي بحب الامتلاك وقهر الغير، وهذا يشير إلى الجشع والطمع، بينما “اليد غير المرتعشة” تعبر عن الجرأة وعدم الخوف من المآل، مما يبرز الشعور الفاسد الذي لا يشعر أصحابه بالندم أو الخوف من ارتكاب الأخطاء.
وعندما ننتقل إلى المتن الروائي فإننا نجد التدرج الجمالي والفني أحد العناصر البارزة في رواية “سيسامنيس” فمثلا يتحقق :
مشاهد الوصف المتناثرة عبر الرواية، ففي البداية يصف البيئة المحيطة بالمستشار قائلا:” يدور المستشار بعينيه في كل اتجاه، فينطلق بصره في جولة دائرية استطلاعية، يترامى اللون الأخضر من حوله إلى منتهاه كالبساط الممتد، ويرى السماء كأنها ملتقية بالأرض، فضاء مفتوح يبهج القلب، ويطيب الخاطر، ويبعث في النفس لبهجة والطمأنينة”()
1-التماثل: ويعني ترتيب العناصر بحيث يكمل كل منهما الآخر، ويتحقق ذلك من خلال المعادل الموضوعي، ألا وهو “اللوحة” المعلقة في بهو القصر، التي تعد بمثابة جلد الذات للمستشار ماجد أبو المجد ، إذ يتذكر عاقبته كلما نظر إلى تلك اللوحة.
التطور: وهو” عملية تتحكم فيها الأجزاء السابقة في اللاحقة، ويخلق الجميع معا معنى كليا، وقد رسم لنا الكاتب في البداية شخصية المستشار بوصفها نموذجا للوقار، ولكنه استطاع عبر تصاعد الأحداث أن يوضح لنا كيف حدث انشطار الذات؟ إذ انبثقت من ذات المستشار الساكنة ذاتا أخرى أكثر شراهةً، فمشهد البداية كان مع دعوة المستشار للفلاحين” دعا أهل قريه في ليلة صيفية إلى وليمة؛ بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة والده، في الحديقة الواسعة بمدخل قصر العائلة….” ثم بدأ التحول في حياة البطل مع مشهد عقدة القدر بظهور المرأة العرافة،- ولم أدر لماذا صور الكاتب وضع الكاتب المرأة في قمقم الرذيلة والخطيئة، هل ليثبت ليسلط الضوء على طمع وجشع الطرف المقابل ألا وهو المستشار، أم لتكون الحكاية الصغرى من قصة “آدم وحواء”-، حيث تنبأت له بالهلاك وقد حدث، مع تلك النبوءة بدأت الأحداث تتوتر وبدأ سلطان الذات العليا تظهر في مقابل الذات الجمعية الضعيفة مع المذيعة، وجابر، وجنات، وشمس، لحظات التنامي بدأت تتصارع وبالرغم من جبروت تلك الذات إلا أنها تنشطر بداخلها، ما بين خير وشر، إلا أن الشر ينتصر في النهاية ولكن العدالة الإلهية فاقت كل القامات، فخرت الأقنعة، وتنامى المقموعون في الأرض.
الزمن:
إذا نظرنا إلى الزمن فإننا نجد نوعاً من الحركية والذبذبة الزمنية في تلك الرواية، حيث خلط الكاتب بين الحاضر والماضي وهو يتابع كل شخصية في حياتها اليومية وفي نفس الوقت يدخل في هذه الحياة اليومية العناصر الماضية، وبناء عليه نقول إن الزمن التخيلي في الرواية هو “الزمن النفسي”، حيث وظف الكاتب الذاكرة في استرجاع الماضي وربط الماضي بحياة الشخصية النفسية، وعرضها من خلال منظور الشخصية، لا من خلال منظور الراوي، وهذه الظاهرة ليست خاصة بالافتتاحية ولكنها تميز البناء الروائي كاملا.
على سبيل المثال عند النظر إلى البطل الحقيقي للرواية وهو المستشار ماجد أبو المجد نجد الرواية تبدأ من اللحظة الراهنة، لحظة الأمر والنهي، لحظة الجشع والطمع، لحظة السقوط والانهيار كما بينت له العرافة التي تنبأت له بالهلاك” لم يكد يفعل، حتى نظرت إليه فجأة، وأمسكت بيده تقرأ الخطوط المرسوم عليها مستقبله، أمسكت يده برفق وربتت عليها وقالت:” لا يميز قلب الأم بين ولديها، الصالح السعيد الذي لم يكن في حاجة إلى من يوجهه، وتوأمه الطالح الشقي الذي لم يجد من يوجهه، أأنت الحكم العدل؟ يا للرجال تنشطر حياتهم بين الارتقاء في مناصبهم والحفاظ على سمعتهم، وبين التسكع والتمتع بالملذات والشهوات، خذ حذرك وإلا سيزول مجدك ، وسيكون هناك كثير من الضحايا، وتنسى كأنك لم تولد، وفي يوم زمهرير شديد برده سوف تهلك من ضربة الشمس”() ثم يعود الزمن في حركة دائرية إلى الماضي ليكشف عن الطفولة المحقونة بالدماء حيت حكت له أم عمرو عن جشعه منذ الصغر، تقول:” والمصيبة الكبرى أنك منذ أن كنت طفلا صغيرا وأنت سريع الملل، لم تسعد بلعبة أكثر من عشر دقائق، ولم تقنع يوما بالقليل، بل كنت صاحب بطن لا تشبع، تطلب المزيد من الطعام والشراب” ثم يتحرك الزمن مرة أخرى ليرصد حياة المستشار ماجد الذي استغل منصبه ضاربا الحلف باليمين عرض الحائط، تاركا المبادئ والأعراف، فنراه يهتك أعراض النساء واحدة تلو الأخرى، ويبغي في الأرض فسادا بقتل أزواجهم وأسرهم، لكن عدالة السماء يفوح عبيرها، ونكتشف التحول المنتظر في حياة البطل؛ ليحدث نوعا من التطهير في نفسية المتلقي ، حيث يكتشف أنه ليس من أصلاب الحسب والنسب بل ابن كبير الطهاة وهو “عزوز النمرود” ، وتتحقق نبوءة العرافة بزوال منصبه، وظهور أخ له من أمه “أم عمرو” خادمة القصر.
أيقونة الحلم:
اتخذ السارد المجاز وسيلة لرسم حلمه المنامي، متخذا منه معادلا ومماثلا لواقعه الحقيقي فمثلا” يستدرج ماجد إحدى القاصرات ، يبلغ عمرها خمس عشرة سنة، إلى قصر تحيطه المياه من كل الجوانب، في جزيرة يذهب إليها لأول مرة، يطلب منها أن تدلك له جسده، وعدها أن يمطرها بالأموال إن وافقت على الذهاب معه، بيد مرتعشة مهتزة أحاطت به تحتضنه، وظلت تدلك جسده إلى أن استرخى تماما، بعدها أخذته غفوة أفاق على صراخ البنت، يحيط به رجال الشرطة الذين سمعوا أصوات استغاثتها، وطلبوا الذهاب معهم دون ضجيج”()
وظف الكاتب تيار الوعي ليستبطن ما بداخل النفس الإنسانية ، ليكشف التوترات والصراعات النفسية داخل البطل، فاستخدم المنولوج الداخلي أو الأسلوب غير المباشر الحر، فنجد مثلا المنولوج الأول يظهر في حديث المستشار مع المرأة البغية “زينة” التي قامت بتهديده بعرض الشرائح المخفاة، حيث نجد لسان حاله يردد ما تخفيه النفس من صراع بي الخير والشر، ويبرز فلسفة الذات الإنسانية والهُوَ ، ولسان حاله يردد:” هل تتهاوى” مملكة أبو المجد”؟ ملك أنا؟! نعم، ملك لكني بلا حراس، متوج على مملكة تعصف من حولها الأعاصير، الليلة تطلب زينة مليون دولار، وغدا تطلب طائرة خاصة، ربما تطمع يوما في الحصول علي أنا شخصيا بعدما تلقي بعادل، رخو الهمة”
ويزداد التوتر تدريجيا باستخدام النصوص الموازية، كاشفة عن الذات الحقيقية المضمرة تحت عباءة المستشار وذوي السلطة قائلة “صدق من قال إن الحماقة أعيت من يداويها ألا تعلم تلك المرأة الخاطئة، قصيرة النظر محدودة الفكر، بأني أتأرجح بين السعادة والألم كلما لامست جسدها؟ هل تظن نفسي أني راض عما أفعله بنفسي؟ ليتي كنت كذلك، لا يرضى مثلي بارتكاب الخطايا، لولا أن نفسي تزين لي كل خطيئة ….
وقد أزاح بيت الحكمة” لكل داء دواء يستطب به…إلا الحماقة أعيت من يداويها” الستار عن تلك الشخصية المرصوفة بقواعد الجشع والطمع، وسيطرة الذات الفردية على الجماعية، لكن سرعان ما يمحى الاستبداد، وتتساقط الأقنعة، بل تتحقق العدالة الإنسانية، ولسان حال المستشار يردد:” سقطت قلعتي الحصينة، تركت قصري ومملكتي وكنزي، ما عادت كل ثروات الدنيا تشغل بالي، بل ما عادت كل نساء العالم تعنيني، ضاعت مصالحي وشخصيتي، وأملاكي وهيبتي قبل أن أخسر كل شيء، والآن صرت أضحوكة، يتردد لقبي”مستشار الزمالك” على لسان وقد تحققت نبوءة العرافة المجنونة”
5-المكان:
مزجت الرواية بين نوعين متناقضين من الأمكنة ، فالأول منهما القصر حيث يرمز إلى الذات العليا في شخص المستشار، أما الثاني فهو المكان الافتراضي عبر برامج التراسل على الإنترنت، الذي يكشف عن حقيقة الذات المستضعفة ، والداعم لكشف حقيقة الأخرى، ومن أهم المقاطع التي تجسد ذلك ، مشهد مراسلة شمس زوجة السائق وضحية المستشار لمحسن بيك ابن الشيخ إسماعيل، حيث يقول لها بعد أن عرفت سر الخزينة وأرسلت له ما يخص الجرائم التي قام بفعلها، حيث يقول:” مساء الخير يا فندم، تحت أمرك، سوف نفعل كل ما يرضي خاطرك، ويحفظ للبلد حقه، لكنك لا تتحدثين عن شخص عادي؛ ولذلك لا بد من التعامل مع هذه القضية بطريقة مختلفة وفق إجراءات قانونية وقضائية محكمة، وبحذر شديد؛ لذا سوف أتحرك بنفسي من أجل الإبلاغ عن كل ما بحوزتي أمام هيئة التفتيش القضائي”
ومن هنا يعد المكان الافتراضي هو الداعم الحقيقي للكشف عن القضية حيث يتوالى السرد على لسان الراوي:” ضجت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي بتفاصيل القضية؛ جلست شمس مع والدها الذي غمره شعور السعادة عندما قال: من كان يصدق أن تبصر أعيننا اليوم الذي يقف فيه كبراء اقوم، شأنهم شأن ن يخطئ من عامة الناس، خلف القضبان”
تابعونا على صفحة الفيس بوك