ثقافة

دراسة نقدية الناقد سامي كامل الرفاعي،لقصيدة “مراقبة” من ديوان “على باب مناماتي

كتبت حنان محمد بعرور

مدخل عام:
تندرج قصيدة “مراقبة” ضمن الشعر العربي المعاصر الذي ينزع نحو التأمل الوجودي، والانفصال الواعي عن الضجيج الاجتماعي والزيف الثقافي. والشاعر في هذا النص لا يكتفي بتوصيف الواقع، بل يُعيد بناءه عبر لغة متوترة، وصور رمزية كثيفة، ونبرة فكرية تتقاطع مع الرؤية الوجودية الناقمة على الخراب الإنساني والتحولات القيمية التي يعاني منها المجتمع المعاصر.

منطقة التوتر الداخلي

البنية الدلالية: الإنسان في مواجهة العطب ؛ منذ مفتتح القصيدة: يقول : “كنت أقاوم رأسي / حتى يبتعد النوم المجهدُ” ندخل إلى منطقة التوتر الداخلي: صراع داخلي مع الذات والوعي، حيث يعجز الشاعر عن الاستسلام للنوم ـ كرمز للراحة أو النسيان ـ بسبب ضغط الأفكار والقلق الوجودي. هذا الاستهلال يضع القارئ أمام شخصية قلقة، يقظة، مثقلة بالتأمل.

الكائنات البريئة تجد مأواها

تنتقل القصيدة إلى مشاهدات شاعرية تُظهر “اليمامات” وهي تعود إلى بيوتها، في مقابل حالة التيه التي يعيشها الشاعر: يقول: “رأيت اليمامات تعبُرُ/ حتى تحط على بيتها / وأنا في الحياةِ / مع الناس” فالمفارقة هنا قوية: الكائنات البريئة تجد مأواها، أما الإنسان، رغم كونه كائنًا اجتماعيًا، يعيش في وحدة وغربة داخلية. ويستمر التوتر الدلالي بالتصاعد من خلال استعراض مفارقات الواقع: شنق الكلام الجميل – عنف الثقافة – الثرثرات الرديئة – الهاربين من الموت للموت – من يشترون الغنى بالهوان.

التعابير تشكّل لوحة بانوراميه لواقع اجتماعي

هذه التعابير تشكّل لوحة بانوراميه لواقع اجتماعي يفتقد للمعنى، تتحول فيه المفاهيم السامية إلى ضحايا: الجمال، الأمان، القيم، كلها تُشنق أو تُباع أو تُهان.

التكثيف اللغوي والمفارقة كأدوات تعبيرية

البنية الأسلوبية: المفارقة، التكرار، واللغة الإيحائية
تعتمد القصيدة على التكثيف اللغوي والمفارقة كأدوات تعبيرية أساسية. فمثلاً، العبارة: “الهاربين من الموت للموت” تقوم على مفارقة دائرية تعبّر عن عبثية الخيارات الإنسانية. في حين أن التركيب: “الشاربين العكار” “من يكرهون النهار” يقدّم صورًا سوداوية رمزية لأشخاص فقدوا قدرتهم على التذوق أو الحياة، وهو توصيف شاعري لحالة وجودية أكثر من كونه مشهدًا واقعيًا.

أسلوب يقوي الإيقاع الداخلي

أما على مستوى التكرار، فـ ” ومن…” تتكرر أكثر من خمس مرات في السياق نفسه، وهو أسلوب يقوي الإيقاع الداخلي، ويؤكد تتابع النماذج السلبية التي يرصدها الشاعر، لكنه في الوقت نفسه يفتقر إلى التنويع في الشكل التركيبي، مما قد يخلق شيئًا من الرتابة لو لم يُوظّف توظيفًا تصاعديًا.

ملاحظة هادئة للوجود

البنية الشعورية: من التأمل إلى الانفجار. من ملاحظة هادئة للوجود، ينزلق النص تدريجيًا إلى حالة من التوتر الانفعالي الحاد، حيث نرى٨ انتقال الشاعر من حماية نفسه بظله، إلى اليقظة على صرخات: يقول : “الفراغ المرابض / يعلو” ثم تبلغ القسوة ذروتها حين يرصد صراعًا بين “اثنين” يتجسد فيه “الحيوان الكامن في الطرفين”. هنا، تتجاوز القصيدة الرؤية الاجتماعية لتكشف عن الوحش الكامن في الإنسان، وهو ما يُذكّرنا بكتابات فرويد أو نيتشه عن غريزة العنف الكامنة خلف قناع التمدن.

 

مكامن القوة في النص

العمق التأملي: القصيدة تنطلق من تجربة شعورية خاصة لتصل إلى مستوى كوني يشمل الإنسان عامة.
2. الكثافة الرمزية: استخدام رموز اليمام، الذئاب، الظل، الجدول، الحيوان الكامن… يمنح النص تعددية في التفسير.
3. الصدق الوجودي: نبرة النص لا تتكلف ولا تتزين، بل تفيض بشعور حقيقي بالألم والانكسار.
4. التصعيد الدرامي: القصيدة تبدأ من تأمل هادئ وتنتهي بانفجار داخلي يعكس عمق التوتر النفسي.

مواطن الضعف أو التحفّظ

بنية متراخية نوعًا ما: رغم وحدة الموضوع، تتفاوت ترابط المقاطع، فهناك قفزات شعورية غير ممهّدة، كالمقطع الذي يبدأ بقوله : “اتجهت إلى جدولٍ / فصحوت / على صرخاتِ الفراغ المرابض”
2. التكرار النمطي : الاعتماد الزائد على بنية “ومن” دون تحوير أو التواء لغوي يُضعف التأثير التراكمي لهذه الصور.

يُضعف الطابع الشعري لحساب الطرح الفكري.

المباشرة أحيانًا: بعض المقاطع تقترب من الخطاب الاجتماعي التقريري: يقول “من يشترون الغنى بالهوان/ ومن يقتلون الأمان” وهذا يُضعف الطابع الشعري لحساب الطرح الفكري.

التأمل الوجودي والرؤية النقدية الاجتماعية

خاتمة: تُعدّ قصيدة “مراقبة” نموذجًا على الشعر القلق والراصد لتحولات العصر، إذ تجمع بين التأمل الوجودي والرؤية النقدية الاجتماعية. هي نص يثير الأسئلة أكثر مما يقدم أجوبة، ويتعامل مع اللغة كأداة تفكيك وكشف، لا مجرد زينة بلاغية. وبرغم بعض الهنّات الشكلية، فإنها تترك في القارئ أثرًا وجدانيًا عميقًا، وتحرضه على التفكير في الإنسان والزمن والمصير.

الواقع الاجتماعي والنفسي بوعي

تلخيص : ما تقدم في نقاط : قصيدة “مراقبة” من ديوان “على باب مناماتي” للشاعر محمد عبد الستار الدش تندرج ضمن شعر التأمل والرصد الوجودي الذي يتماس مع الواقع الاجتماعي والنفسي بوعي شعري واضح. وسنقدّم هنا قراءة نقدية متوازنة تسلّط الضوء على أهم مميزات النص وبعض مواطن الضعف المحتملة.

 

مميزات القصيدة العمق التأملي والفلسفي

القصيدة تنتمي إلى نمط شعري يتأمل الوجود الإنساني بعين الناقد الحزين. يراقب الشاعر الحياة من موقع المنعزل الراصد، فيكشف التناقضات والانهيارات القيمية:
يقول : “وأنا في الحياةِ / مع الناس / أرقب شنق الكلام الجميل”
هنا نلمس موقفًا سوداويًا فيه عزلة فكرية وانفصال شعوري عن المحيط.
2. استخدام المجاز والكثافة الرمزية: تمتلئ القصيدة بصور رمزية ذات دلالات كثيفة: “شنق الكلام الجميل”: تعبير مجازي عن اختناق المعنى وانحطاط الخطاب. “الهاربين من الموت للموت”: مفارقة توحي بعبثية الوجود… ختامًا

رؤية ناقدة وحسّ شعري متين

لا يسعنا ونحن نغادر عوالم قصيدة “مراقبة” إلا أن نثمّن بصدق التجربة الشعرية للشاعر محمد عبد الستار الدش، الذي استطاع أن يُحمل كلماته توتّر الوعي الإنساني، دون أن يسقط في الادعاء أو الزخرفة اللفظية. لقد منحنا قصيدة صادقة، تنبض برؤية ناقدة وحسّ شعري متين، وهذا ما يجعل من تجربته صوتًا يستحق الإصغاء لا لمجرد التقدير، بل لما فيها من إشارات إنسانية وثقافية شعرية تُثير التأمل.

تابعونا علي صفحة الفيس بوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى