ثقافة وفن

مقتطع من رواية “زهرة يوسفية” الدكتورة نجوى محمد سلام* الفراشة الحالمة

كتبت حنان محمد بعرور

زهرة يوسفية

هل جربتم يوماً الجرأة على اقتحام حاجز الصمت الذي يفصل بين الأرواح، كأنما هو جدار عازل تحيط به سحبٌ من الخوف والتردد؟ هل تساءلتم عن تلك الفجوات الصامتة التي تتسع يوماً بعد يوم، حتى تصبح كهوفًا مظلمة في قلب كل منا؟ خلف تلك الجدران المغلقة، هناك حكاياتٌ معلقة، وكلماتٌ تكسوها غبرة الزمن، عجزت عن الخروج، وحبست نفسها بين أسوار الخوف والخذلان ، و خبأتها صناديقنا السوداء ، الكلمات التي كان من الممكن أن تخرج كالريح، صارت أسرى صمتٍ طويل، مثل زهور ذابلة لا تجد من يرويها.

لا مجال للصمت

اليوم، لا مجال للصمت. الآن ، أنا هنا لأكشف عن كل تلك الحروف المدفونة في أعماق الروح، لتجد ضوءها في كلمات حان اطلاق سراحها عنوة . سأحطم هذا الصمت كما يحطم الفجر الظلام، وأفتح الأبواب التي أغلقها الخجل ، ليتنفس الوجع بعد أن طال أمده. كأنني أفتح نافذة في قلب الزمان، فتتساقط من خلالها دماء كلمات لم تُكتب إلا الآن، كلمات حُبست في دهاليز العمر، سأدع أسرار صندوقي الأسود تتحرر أخيرًا كما يتحرر الطائر من قفصه.

سأترك دموع الكلمات تندفع كما الأمطار

اليوم، سأترك دموع الكلمات تندفع كما الأمطار، تسقي سطور عمري التي ظلت جافة طويلاً، لتنبت الزهور التي كانت تنتظر فقط الوقت المناسب للظهور. لن أسمح للغموض بعد اليوم أن يعزلني عن نفسي ، ولن أبقى أسيرة صمتٍ يصم آذان روحي. الكلمات هي الضوء الذي يهدينى إلى بعضي، هي الجسر الذي يعبر بي من الهوة العميقة إلى ضفة الفهم والتواصل مع الذات .
اليوم، أنا هنا لأصنع معكم من الكلمات جسرًا يعبر بي إلى حقيقة الحياة ، إلى تلك المساحات في روحي التي طالما احتاجت للثرثرة .

كنت زهرة يوسفية

نبتت من تراب يمتزج فيه حنين الوطن الأول بوهج عشق يعقوبيّ لا يُضاهى.

عشق وطني الأول

كان جذري غائصًا في ترابٍ صنعه عشق وطني الأول، وسقاني ماءه رجلٌ يعقوبيّ الهوى. أبي، رجلي الأول، كان النهر الذي يتفرع من قلبه ليغمرني بالحب. أنا القارورة الوحيدة بين أشواكٍ جافة، تتغذى على ظلّي وتحسد عطري، لكني لم أكن أرى غيره. كان حضوره ملاذي، وصوته لحنًا لا يعرف النشاز.

بذرتي لم تكن عادية

بل نبتت في قلب قارورة شفافة، تحملني بين أضلعها كأغلى كنز. صرت منذ ولادتي قارورة أبي المتوهجة بعد أمي ، كنت القارورة الوحيدة في أسرة امتلأت بغصون يابسة، فكان أبي، رجلي الأول، يُغدقني حبًا بحجم السماوات كأمي . كان يروي عطشي بحنانه، يحرسني من زوابع الغيرة، ويراني امتدادًا لروحها التي تُشرق في كل صباح.

أنظر للعالم من عينيه

كبرتُ على كتفيه، أنظر للعالم من عينيه، فصار كل ما هو خارجه خافتًا، كأنه ظلال لم تُخلق إلا لتُبرز وهجه. كان يعاملني مثلها كقصيدة لا تتكرر، كدرة يضعنى فى قلبه ، و يحرسني من الأنواء.

أحببته حبًا جعل كل الرجال بعده مرايا باهتة

أراني من خلالها ظلّه فقط. كان حضوره في حياتي وطنًا، دفئًا لا يبرد، وحضنًا يملأه الأمان. لكن عشقهما لي أشعل نار الغيرة في قلوب إخوتي. كانوا يرونني غريبة بينهم، طيفًا لا ينتمي إلى حلكة أرواحهم. فنسجوا شراكهم بصبر الثعالب ومكرهم ، واحدة تلو الأخرى.
كبرت وحان وقت قطاف ثمار أنوثتي ، فزوجني أبي لمن عشقه قلبي واستأنست به روحي ، وقتها لم يكن بيتهم القديم يليق بقارورة أمي الوحيدة ، عرضت على أبي فكرة إهدائي شقة كمثل إخوتي ، حتى تضمن بقائي على مقربة منها ، وافق زوجي على مضض ، تم تجهيزه لشقة الزوجية ، وتمت مراسم الزواج ، لتنكشف نوايا إخوتي .
كانت أمي – كرم الله ثراها – تقف ضد هجماتهم كسد منيع ، كشرت الأيام أنيابها وأعلن قلبها عطبه ، لازمتها الأسرة البيضاء ، ورافقتها أنا وزوجي في رحلة علاجها التي امتدت عامين كاملين ، ومضت الأيام ظننتها غيرت عاداتها معي ، لكن طبعها الغدر ، سقطت أنا بعدها طريحة الفراش ، حتى انطفأت مشكاة وطني الأول ، وسقط الوطن الذي كان يحرسني من عواصفهم.

خرجت من براثن الأيام جريحة

بين عشية وضحاها و ذات ليلة بلا قمر، اجتمعوا حولي كما تتجمع الذئاب حول فريستها. انتزعوني من جذوري فى عز محنة فقد أمي وأزمة مرضي العضال ، طردوا زوجي من البيت الذي كان لي وطنًا وسماءً، ولم يتركوا لي سوى أحزان خذلاني فيهم ، آثرت اختيار كفة زوجي ، اعترض أبي ، لكن زوجي فضل الرحيل حفاظاً على كرامته ، وحفظاً لماء وجه رجولته ، ومضيت معه لحال سبيلنا .
عدنا لشقتنا ببيت عائلة زوجي ، أجرجر أذيال خيبتي ،
ظنوا أنهم انتصروا، لكن الله كان أرحم منهم ، فتح لنا ذراعيه وربت على قلبينا ، فتح أبواب بيته العتيق لنا .
نقشوا بأزميل جحودهم سجلات غربتي ، لكنهم لم يدركوا أبدًا أنني أحمل أبي في قلبي.

تابعونا على صفحة الفيس بوك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى