شعر

قصة قصيرة (الأب الروحي) للأديب الكبير الاستاذ محمود عرفات.

كتب حنان محمد

 

الأب الروحي
يعرف طوب الآرض، يصاحب الخفير والوزير، هكذا حدثني عنه علوان رأفت عندما دعاني لنزوره في قريته الرابضة على النيل، في السيارة واصل تعريفي بشخصيته:

زميل في الفصل من الابتدائي حتي افترقنا بعد الثانوية العامة، التحق بالكليةالحربية، وأنا بكلية التجارة، لكن الصلة لم تنقطع، في أكتوبر 73 كان قائد سرية دبابات ضمن تشكيلات الجيش الثالث،

ظل تحت الحصار ثلاثة شهور، مرارة الحرب دفعته لطلب التقاعد، لم يحصل على الموافقة إلا بعد ترقيته لرتبة عقيد، كان يعرف هدفه بوضوح،

فانطلق نحوه بإصرار.

افتتح شركة مقاولات أسماها “أحلامكو”، ولأنه يعرف طوب الأرض استطاع الحصول على مساحة من الأرض في شرم الشيخ،

مخصصة للاستثمار السياحي، المساحة كبيرة والثمن رمزي، والسداد بالراحة، وحتي لا تضيع منه الأرض بحث عن ممول ليبني قرية سياحية،

بعد جهد استطاع الوصول إلى أحد كبار المستثمرين العقاريين، أقنعه أن يكوِّنا شركة معًا، هو بالآرض والمستثمر بالتمويل والخبرة الفنية.

في مدخل البيت كان يوسف الحسيني يستقبلنا بقامته المديدة وعوده السرح،

يرتدي بدلة فاخرة لونها كموني وربطة عنق صنعت خصيصًا لها، يشع منه عطر هاديء لكنه مؤثر، كان يبدو عريسًا بجد،

رغم أن لديه ثلاث بنات وولدين في سن الزواج. بدأ الحديث فأخذنا الكلام وتشعب، بعد دقائق ذابت الكلفة بيننا وكأننا نعرف بعضنا من سنين. اكتشفت فيه محدثًا شديد العذوبة، تشع من نظراته وحركات جسمه ملامح زعامة،

تحدث عن أيامه في الجيش، وذكرياته مع مشاهير القادة الذين عمل معهم، تحدث عن حرب أكتوبر والإعداد لها، لكنه لم يعرج على سبعة وستين مطلقًا،

تأملته كمن يدخل يده في جراب،

ثم يخرجها مليئة بكنوز الذكريات، ينثرها في رشاقة، فيستولي على ناصية الحديث. رغم إعجابي به لم أفهم كيف يتخلى عن مستقبله العسكري بهذه البساطة،

ويلح في الاستقالة ليصبح رجل أعمال. بعد لحظات اقتربت من حدود الفهم عندما سأله علوان رأفت عن أخبار القرية السياحية فقال:

= اكتمل البناء وبدأت التشطيبات، وأرى بوادر أزمة في الأفق.
رد علوان في لهفة:
= أزمة مع من؟
= مع شريكي طبعًا.
= لماذا؟

= أعرف أنها أزمة حتمية، لكني كنت حريصًا حتى لا تنفجر قبل اكتمال البناء.
= لا أفهم.

سكت يوسف الحسيني قليلًا، ثم أخذ يشرح بهدوء:

= شريكي صاحب أكبر شركة عقارية في البلد، خبراته واتصالاته وأمواله الحاضرة كانت ضرورية لإنشاء القرية، من ناحيتي كنت في حاجة له،

وهو كان في حاجة إلى الأرض في هذا المكان البديع، كنت أعرف أنه يعاملني على أنني نشلت الأرض، وأنه سيأخذ ألف جنيه مقابل كل جنيه يدفعه في المشروع، كنا نعرف أن القيمة الحقيقية تتحقق بالبناء.
تدخلت دون تروٍ متسائلًا:

= أين الأزمة إذن؟

ضم يوسف أصابع يده إلى أعلى وهزها إلى أسفل عدة مرات، بمعنى “اصبر قليلًا” وقال وهو يبتسم:
= إتمام القرية معناه أنني سأشاركه في القيمة الجديدة.

كانت الصورة حتى هذه اللحظة غائمة، لكن العبارةالأخيرة ليوسف ضبطت بؤرة العدسة، فتبدت الصورة واضحة، وانتقلت من تخوم الفهم التي كنت أحوم حولها إلى الإدراك الجلي، أفقت على صوت علوان وهو يدك آخر حصون الغباء التي أقف وراءها، ويقول ليوسف:

= تبدو وكأنك صنعت الأزمة، وضبطت توقيتها.

قال يوسف:
= عليك نور، وأنتظر إشعاالها، وأغذيها بالخشب لتستحكم ثم نجلس لنفض الشركة.
قلت منفعلًا:
= يا نهار أسود.
رد يوسف وهو يحرك يديه كصبي عالمة، وقال:
= قل يا نهار أبيض ومزهزه.

فتحت فمي ذاهلا، ويوسف يواصل كلامه:
= القيمة المبدئية للقرية الآن خمسة وعشرون مليونًا تقريبًا، الثلث لي، يعني ثمانية ملايين جنيه.
رددت الرقم ذاهلًا وقلت:
= فقط.

= فقط يا عزيزي، ثمانية ملايين فقط.

ارتفع رنين جرس الهاتف في اللحظة التي دخلت فيها الخادمة الصغيرة وهي تحمل صينية الشاي والحلوى، رفع يوسف السماعة، وأشار لنا قبل أن يرد لكي نمد أيدينا، وكأنه يقول “البيت بيتكم”،

انشغلنا في صب الشاي وتناول الحلوى وتأمل طاقم الصيني الفاخر بينما كان يوسف يتحدث، انتبهنا إليه ينهض وهو يصرخ:
= ماذا تقول يا إمام باشا.

= وما رأيك؟

= أنا موافق طبعًا.

وضع يوسف السماعة، ساد الصمت، جلس ثم وقف، سار بضع خطوات، أغلق الباب، مد يده والتقط عصا طويلة مذهبة الحواف من خلف أحد المقاعد،

فك أزرار السترة وأخذ يرقص على قدم واحدة والعصا فوق رأسه كمحترف، سكن فجأة ثم لوح بالعصا في وجهينا، وهو يفتعل الغضب، وقال:
= لم لا تصفقان؟

الدهشة أسكتتني، لكن علوان لوح في وجه يوسف صارخًا:
= حيلك.. حيلك.. ما تفهمنا الحكاية.
كأن يوسف في انتظار سماع هذه العبارة، فجلس ثم وقف واستند بيديه على العصا المغروسة في السجادة الفاخرة وأخذ يخطب:
= شريكي يلطم خديه.
نطقنا في نفس واحد:
= لم؟

 جاءه عرض لشراء القرية.

فسأله علوان:
= بكم؟
= بخمسة وثلاثين مليونُا.
رد علوان:
= المفروض أن يفرح.
= الفرح لي أنا.
= وهو؟
= يلطم.

في البداية ظننت أنني بدأت أفهم، لكني أدركت في هذه اللحظة أنني واهم، سألت بخجل:
= أنا لا أفهم شيئًا.
فقال يوسف مُبسِّطًا الموضوع:

= أفهمك يا عزيزي،

في كل الأحوال أنا أكسب، لو خمسة وعشرين يكون نصيبي ثمانية، لو خمسة وثلاثين يكون نصيبي اثني عشر مليونًا، أما شريكي فهو خاسر في كل الأحوال، اسألني لماذا؟
= لماذا يا يوسف بك؟

= شريكي يخطط لإدارة القرية بمعرفته كمشروع سياحي ليدر عليه ذهبًا، فإذا باعه فكأنه يذبح الدجاجة التي تبيض له كل يوم بيضة ذهبية.
قال علوان ببساطة:

= لماذا يلطم وجهه وهو يملك أن يقول لا.
مد يوسف يده ليسكتنا، ويمهدنا لإلقاء بيان مهم، انتظر حتى استبد بنا الملل، قال ببطء محسوب:
= المشكلة يا أحبائي أنه لا يستطيع الرفض، أنتم لا تعرفون المشتري.

رد علوان وهو يشيح بيده:

= من يكون يعني؟
تفكر يوسف قليلًا، وهز رأسه عدة مرات كأنه يقلب الأمر، ثم قال:
= هل شاهدت فيلم الأب الروحي ل “مارلون براندو”؟
هز علوان كتفيه وواصل الحديث بإهمال:
= نعم شاهدته.

قال يوسف وملامح الجد تكسو وجهه:
= المشتري يا سيدي هو نفسه “مارلون براندو”.
أعاد يوسف أزرار الجاكت إلى الوضع السابق، ونظر في المرآة، عدَّل ربطة العنق، هبط الدرج واتجه نحو سيارته التي تضوي تحت الشمس الغاربة،

ينظر إلى الأمام كأنه مُنوم، فتح باب السيارة، جلس أمام عجلة القيادة، أدار المحرك وانطلق دون يدري أنه تركنا وحدنا في غرفة الاستقبال.
محمود عرفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى