شعر

قصة قصيرة” سيدي مسعود ” للأديب فخري أبوشليب.

كتب حنان محمد

 

سيدي مسعود

اعتدنا ، نحن أطفال الحي أن نشعل شموعاً صغيرة ونضعها في شباك الضريح المقابل لبيتنا القديم ، عل صاحب المقام يحقق لنا أمنية طفولية ، أو يساعدنا علي النجاح في المدرسة الابتدائية .
ولم أشهد في طفولتي وصباي احتفالاً بمولد الشيخ أو بنذر ينذر له

، كما لم أر أحداً يقترب من نافذة الضريح ويقرأ الفاتحة تبركاً إلا بعض القرويين الوافدين يوم الجمعة لقضاء حاجة من البندر .
لم يكن المقام سوي علامة جغرافية ، فيقولون ” بجوار سيدي مسعود ” أو أمامه أو بينه وبين سرجة الحاج
” احسن ” ، ومن النافذة ذات القضبان المعدنية كنا نري المقصورة المغطاة بقماش مخملي أخضر قديم تعلو مقدمته عمامة حمراء كأنها تغطي رأس الشيخ المدفون تحتها . وكنا نشب علي أطراف أصابعنا نتأمل العمامة .

ويبدو أن الشيخ كان أقل حظاً من سيدي البابلي الذي يبعد مقامه خطوات معدودات ، وملحق به مصلي و ميضأة ، وله مقيم شعائر ، وخطيب متطوع من طلاب الأزهر المجاورين ، وتؤدي فيه صلاة الجمعة .

وقيل عنه إنه كان من أهل الخطوة ، كما قيل عن سيدي مسعود إنه كانت له بعض الكرامات ، غير أن أصحابه لم يقوموا به ، فلم أر أحداً يرتاد مقامه ليصلي منفرداً أو في جماعة ، اللهم إلا شيخ عجوز يكتفي بتنظيف المكان من الأتربة في الصباح ويختفي بعد صلاة العشاء ،

وسرعان ماقضي بعد أن عهد بمفتاح الضريح لباتعة الفاكهانية وأدعت أنه استخلفها علي سر كان بينه وبين صاحب المقام .

المقام يقع في بناء واحد بين سرجة الحاج حسن ودكان مرسي العطار ، وعلي الرصيف المقابل كانت باتعة تضع أقفاص فاكهتها بالنهار .

ولم يمض وقت طويل حتي صار فرش باتعة هو العلامة الجغرافية للمكان ، ولم يبق شيئاً ظاهراً من الضريح سوي النافذة الصغيرة ، وكانت باتعة كل حين تشعل شمعتين وتضعهما في النافذة

التي تعذر علي الأطفال بلوغها بعد أن احتلت أقفاص الفاكهة كل الرصيف المتاخم للضريح الذي لم يعد يأت له ذكر اللهم إلا من بعض من طال بهم المقام في الحي الذي نشأوا فيه ، وبقيت أعلي واجهة المقام لافتة نحاسية قديمة يكاد لا يلحظها أحد ، وقيل إنها من العصر المملوكي أو العثماني ، منقوش عليها ” هذا مقام سيدي مسعود المغربي ”

بالليل تضع باتعة أقفاصها داخل الضريح فتوفر أجر مخزن ، وتعود إلي قريتها عند أطراف المدينة آمنة علي بضاعتها ، فلن يجرؤ لص أو عابث علي السطو علي ضريح الشيخ ، بعد أن باحت بالسر .

أشاعت أن صاحب المقام يخرج من المقصورة بعد العشاء ويقوم الليل مصلياً حتي الصباح . وأن من يقترب من الضريح في هذا الوقت سيصاب بمرض عضال يحار فيه الأطباء .

جمعت باتعة بين مكر الأنثي و مكر القرويين و عرفت أنه لن يقترب أحد من الضريح بالليل إلا من أجل الفاكهة ، أما عن الصلاة و الدعاء فأمامهم سيدي البابلي ، فضلاً عن أن الناس يصدقون ما يقال عن أولياء الله الصالحين ،

حتي ولو تظاهروا بعدم التصديق ، لكن باتعة لم تحسب حساب شخص استثنائي هو سعد التعلب
بمرور الأيام فقد السر سخونته وصار كلاماً مرسلاً ، ولم يأخذه البعض باهتمام برغم تأكيد باتعة عليه بين الحين والآخر .

وفي صبح يوم ربيعي رائق كانت باتعة تصرخ مولولة عند باب الضريح المفتوح علي مصراعيه الصغيرين وقد اختفت أقفاص المانجو من داخله .

ولأن سعداً كان لصاً قرارياً فقد أدرك بغريزته منذ البداية أن باتعة كانت تخفي ما تدخره من مال داخل أقفاصها ، ولم يكن يحول بينه وبين هدفه ما يقال عن سر الشيخ مسعود .

في الوقت الذي فيه كانت باتعة تلطم خديها كان سعد يجلس عند القهوة القريبة واضعاً ساقاً فوق الأخري وعلي وجهه ابتسامة ماكرة تزيدها مكراً عينه الحولاء وأسنانه التي يكتنف منابتها سواد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى