قصص

ســــيدة الجـــحـيــم…..ســــيدة الجـــحـيــم

بقلم: أحمد محمود شرقاوي

امبارح روحت على بيت أبويا غضبانة بسبب ضرب جوزي المُتكرر, بس المرة دي كان الضرب مُبرح وسايب أثره على كل مكان في جسمي حرفيًا, وشي وارم وفيه جرح كبير في راسي, رقبتي فيها زرقان بسبب الخنق اللي فيها, كنت في وضع لا أُحسد عليه للأسف, وطبعا بعد تلت أيام أتجمع الناس من العيلتين عشان الصُلح رغم إني كنت رافضة ده تماما, وفي النهاية وزي كل مرة أجبروني إني أرجع عشان الأطفال وعشان البيت ميخربش, رجعت وانا مقهورة ومحتاجة أتكلم وأفضفض بأي طريقة, كنت حاسة بضعف وذل وقهر, قلبي واجعني ودموعي مش عايزة تقف, وده لأني عارفة إن الضرب هيتكرر تاني للأسف, اللي زي ده مش هيبطل اللي هو فيه إطلاقا..
سرحت, سرحت كتير لحد ما افتكرت واحدة زميلتي من أيام الجامعة, كانت أكتر انسانة متدينة ومحترمة شوفتها في حياتي كلها, وبالصُدفة البحتة لقيت الأكاونت بتاعها من فترة وكنت كلمتها, بعتلها وطلبت رقمها لأني كنت محتاجة أتكلم معاها, ولما لقتها قافلة كتبتلها رسالة طويلة أوي, حكيت لها فيها عن كل حاجة بتحصل من جوزي, الضرب والإهانة والقهر والذل اللي انا فيه, كل حاجة بالتفصيل حكتها واستنيت الرد بتاعها..
شوية ودخل جوزي من برة, وحسيت بقبضة مسكتني, وكأن شيطان رجيم دخل من باب الشقة مش إنسان طبيعي, شوية وطلب مني أجهزله الأكل, وانا من جوايا كنت مشحونة, مشحونة بطاقة تخليني أقتله لو اتكلم معايا بس, رديت عليه رد مستفز عشان يبدأ صوته يعلى ونبدأ مع بعض خناقة جديدة, وطبعا وصلت للشتايم وكنا داخلين على مرحلة الضرب كالعادة, وافتكرت وقتها المشهد الشهير, مشهد البطلة وهي بتولع في نفسها في الفيلم, وانا قررت أكون البطلة دي, وبدون مقدمات جريت على المطبخ, كانت فيه ازازة جاز بنضف بيها, دلقتها عليا وهو واقف يضحك بسخرية من جناني, وقتها لو مكنتش كملت كنت هخليه يشمت فيا ويتهمني بالجُبن, وانا مش جبانة, مش جبانة خالص..
“يابنت المجانين”
ومسكت النار في جسمي, واكتشفت انك ممكن في لحظة تتنقل لعالم تاني خالص, عالم عبارة عن جحيم, جحيم مبينتهيش, في البداية حسيت بحرقان رهيب وحرارة شديدة, وبعدها حسيت بجلدي بيسيح ولحمي بيفور مكانه, سمعت نبضات عنيفة في راسي وكأن المُخ بيستغيث, وبعدها نار, ثم نار, ثم نار..
وبدأ الصراخ, صراخ رهيب يمكن النار تهدى, قطعت في جلدي بضوافري يمكن النار تهدى, اترميت على الأرض وفضلت أتنفض يمكن النار تهدى, بس النار مسافة ما مسكت في جسمي خلاص, مش هتهدى, مش هتهدى تاني خالص..
وقتها كان طفاني بالبطانية بس النار فضلت معايا, نبضات في راسي, وحرقان رهيب في لحمي, وجلدي حرفيا اتفحم في أكتر من مكان, وعرفت إن كل حاجة انتهت, حياتي كلها انتهت, ومكانتش فيه غير فكرة واحدة في حياتي, هل الموضوع كان يستحق عشان أعمل في نفسي كدا, إطلاقا, أنا نزلت الجحيم عشان بس أعاند وانتصر مش أكتر ولا أقل..
خدوني وجريوا على المستشفى, كل ده والنار مبتطفيش, مفيش لحظة سكون, اللحم بتاع جسمي عمال يتنفض زي نبضات القلب بالظبط, وأي احتكاك أو لمسة للجلد بتخليني أحس بصواعق كهربا بتمسك في جسمي, لحد ما ضلمت الدنيا كلها, ضلمت ونمت بس النار لسة ماسكة في جسمي, مبتهداش إطلاقا, ومش هتهدى مهما حصل..
ووسط الضلمة الغريبة دي شوفت واحدة وشها محروق ولابسة اسود وسنانها بيضا زي التلج, وقربت مني وقامت مخربشة جلدي, وقمت أصرخ بصوت رهيب, لأن النار زادت تاني, وحسيت بنفس إحساس النار أول ما ولعت في نفسي, طقم التمريض جريوا عليا وبدأوا يدوني المُسكن ولقيت نفسي عريانة تماما وجلدي متفحم, ووسط كل ده وفي آخر الأوضة شوفتها, نفس الست المحروقة, كانت بتتفرج علينا بنظرة شيطان, عنيها كانت جاحظة وكأنها هتخرج من مكانها, ووشها متفحم ولابسة اسود, أبشع منظر ممكن تشوفه في حياتك حرفيا..
ومسافة ما المسكن اشتغل وهديت النار بنسبة لا تُذكر ولسة حاسة بالنار الملتهبة لقيت الست دي بكل طاقتها وراحت مخربشاني تاني, وحسيت بالنار من تاني, لهب, جيت أصرخ راحت حاشرة ايديها كلها في بقي, وكتمت صراخي وهي بتضحك, ولقتها قربت من ودني بكل هدوء وقالت:
– أنا اللي كنت نايمة قبلك ومُت على نفس السرير, وجاية عشان أخدك معايا لأنك مش هتخرجي من هنا حية, استحالة ده يحصل وانا موجودة
وفي لحظة ضلمت الدنيا, ضلمت تماما وشوفت حلم غريب, واقعي, وكأني طايرة في سقف الأوضة وشايفة على نفس السرير واحدة عمالة تصرخ, كان جسمها كله حرفيا متفحم, وصرخاتها مكانتش بتقف ولو لحظة واحدة, وفضلت تصرخ لحد ما بدأ صوت حشرجة مُخيف وعالي أوي يخرج منها, شوية وفيه مادة بيضا سالت من بقها ولفظت أنفاسها الأخيرة, ومكنتش محتاجة حد يفسرلي إن دي اللي عفريتها أو قرينها بيهددني بالموت..
وضلمت الدنيا كلها, ضلمت تماما, شوية وشوفت نفسي في مكان كله ظلام دامس, النور الوحيد كان خارج من جثة ملفوفة بالكفن الأبيض, جُثة كانت بتتحرك بعشوائية لحد ما خرجت وشها من الكفن, وشوفتها نفس الست المحروقة, كانت مبتسمة وفرحانة أوي, وكانت بتقول:
“هجيبك هنا في القبر معايا بعد تلت أيام بس, حياتك هتخلص بعد تلت أيام”
وقامت من مكانها, قامت وقربت مني بهدوء وانا مشلولة مكاني, مشلولة مبتحركش, وقامت مخربشة جسمي, وولعت النار تاني, واتنفض اللحم وثار الجلد, وبدأت النبضات تضرب في راسي, ورجعت أصرخ, أصرخ, وشوفت نفسي في الأوضة من تاني, اترجيتهم يدوني مسكن قالوا ان ده ممنوع, المسكن كل 24 ساعة مرة, طيب والنار اللي بتاكل فيا دي, هنعالجها ازاي, يارب, يارب..
وشوفتها, شوفتها بتضحك وعمالة تشاور يعني “3” تلت أيام وهموت, وهبقا معاها في نفس القبر, من نار الدنيا لنار الآخرة, ولو ليا أمنية أخيرة بس كنت هتمنا لو كنت قطعت ايدي قبل ما أولع في نفسي بيها, وده لأنك تحت لهيب النار بيجيلك اليقين ان مفيش حاجة في الدنيا إطلاقا تستحق انها تخليك تنت-حر, مهما كانت ايه هي, لأن ألم الموت وقتها هيأكدلك كلامي ده, بس مش أي ألم, ده ألم بيخليك تغيب عن الدنيا دي وتروح لدنيا تانية, دنيا كل كلماتها عبارة عن آآآآآه, وكل حاجة فيها نار, الهوا يلمس جسمك يحرقه, أي بشري يلمس جسمك يحرقه, أنفاسك اللي بتخرج منك بتسبب ألم, حركتك, كلامك, عنيك نفسها فيها نار..
وظهرت من تاني, ظهرت بس في حلم جديد, كنت واقفة وسط أرض, مقلب زبالة مولع, وانا في النص بتحرق مع الزبالة دي وعمالة أصرخ والنار بتاكل فيا, وهي عمالة تشد فيا عشان تاخدني معاها, ساعات, ساعات بتألم ألم بشع, خرافي, لحد ما فتحت عيني, فتحت عيني عشان أشوف أبشع مشهد ممكن أشوفه في حياتي, الست المحروقة ماسكة مشط رجلي ورافعة رجلي كلها لفوق, والرفعة دي كانت مسببة غليان في مخي وجسمي, حرفيا غليان, لدرجة ان صوتي وقف في حلقي من الألم, وقف تماما..
وفين وفين لما صرخت وجه طقم التمريض يجري, كنت سامعة ضحكاتها في ودني, وكانت بتشاور بعلامة 2, باقي يومين وتموتي, ورجعت النار تاني, مفيش راحة ولو دقيقة, نار ثم نار ثم نار, هنا انا في عالم للعذاب وبس, عذاب أبدي, وفضلت اتحرق فيه لحد ما نمت, ولما صحيت لقتني جوة تابوت بيولع بالنار, والست عمالة تصرخ من فوق وتقول:
“باقي يوم 1”
“باقي يوم 1”
وصحيت أصرخ بهيستريا, بس مكانتش الست دي واقفة, كانت خالتي هي اللي واقفة, خالتي اللي بحبها أكتر من أي حد في الدنيا, بدأت تتكلم أول ما فتحت عنيا وقال:
– نادي عليه هينجيكي, أوعى الشيطان يضحك عليكي, هو رب المعجزات ناديله يابنتي, ناديله
كلمتها بلسان مشقوق من النار وقلت:
– هموت بكرة هي قالتلي كدا
– أيا كانت يا بنتي محدش يعلم الغيب غيره, متخليش الشيطان يلعب بيكي, ناديله بسرعة, ناديله
– أنادي أقول ايه
– قولي يا لطيف يا لطيف, قولي يا بنتي, قولي
وشوفت بيني وبين الشيطانة دي حاجز من نور, كانت بتصرخ وبتحاول تتخطاه, بس انا موقفتش لحظة, قولت يا لطيف يمكن مليون مرة, رغم النار, ورغم الغليان, ورغم الألم, قالتلي باقي يوم, وبدأ جسمي يتخدر, واشوف خيالات وحاجة بتقولي ده ألم سكرات الموت, بس هو شايف, هو رب المعجزات زي ما خالتي قالت, هينجيني, يا لطيف, يا لطيف, يا لطيف, نار, نار, وضلمت الدنيا كلها..
صحيت, صحيت لقتني في الأوضة, والممرضة مبتسمة, ولقتها بتبشرني:
“بقالك اسبوع هنا, واسبوع الخطر عدى خلاص, مبروك قريب هتتعافي وتخرجي”
اسبوع ازاي, يعني التلت أيام عدوا, يعني مش هموت, والنار, النار هديت خالص, اة جسمي اتشوه, بس النار اتطفت, انا مش مصدقة, انا عارفة أنام عادي, مفيش غليان, شوية ألم بس بيسكتوا ويشتغلوا, وعدى الشهر, وكنت برة المستشفى, كنت برة عمالة أبكي ومش عارفة أرفع راسي أشكر ربنا ازاي من الخجل اللي فيا..
ورجعت البيت, رجعت وانا ساكتة, فاقدة النُطق, أو يمكن شوفت حاجة خلتني زهدت في الكون كله, معرفش ليه فتحت النت ولقيت رسالة, رسالة من صاحبتي اللي بعتلها قبل الحادثة بشتكيلها من ضرب جوزي واني قربت انت-حر, شوفت رد طويل أوي, رد بيقول:
“ربنا لما بيحب عبد بيبتليه, والزوجة المقهورة على حياتها ده بلاء من ربنا, بلاء معناه ان ربنا بيحبها, وانه هيرفع عنها بس محتاج يشوف منها صبر وثبات, زي المبتلى بالمرض, والمبتلى بالفقر, كل واحد عنده بلاء, وانتي بلائك زوجك, اة من حقك تطلقي, بس لو مقهورة على الحياة دي يبقا ده هو البلاء, والبلاء سلاح ذو حدين, نصبر عليه ندخل الجنة من غير حساب مع الصابرين, نسخط وننتح-ر أو نعترض يبقا هنشوف الويل, لازم نتأدب مع رب العباد, اصبري ووالله هتشوفي خير عظيم”
وبكيت, بكيت كتير أوي, يارتني شوفت الكلام ده قبل ما أولع في نفسي, بس رغم بشاعة الألم أنا هتحمل, هتحمل ولو عشت عمري كله في جحيم, لان مفيش جحيم بعد اللي شوفته ده, وعدى الموضوع وكملت, أة والله كملت, كملت لما عرفت ان مش خالتي اللي جتلي يومها كمان، خالتي قالتلي ان كان ممنوع إطلاقا حد يدخل واني متكلمتش معاها غير بعد ما اتعافيت تماما، وكأنه كان جندي من جنود الله بيبشرني وبيساعدني أقاوم الشيطانة..
وكلها سنة, سنة واحدة وجوزي عمل حادثة رهيبة واتشل, وسمعت منه يومها أهات انا عارفاها كويس, اهات الحوادث والنار, وشوفت في عنيه نظرة توسل ورجاء وسمعته بيقول
“متسبنيش بالله عليكي”
انا الوحيدة اللي كنت عارفة هو حاسس بإيه, رغم انه ألم كسر عظام بس قريب من ألم الحرق, كله عالم واحد اسمه عالم الألم, ووعدته اني مش هسيبه أبدا, هكمل البلاء للآخر, ويوم موته طلب مني طلب واحد, طلب مني أرفع رجلي يبوسها كنوع من الاعتذار, بس انا معملتش كدا, انا اللي بوست على راسه وايده ورجله, قولتله اني مسامحاه, ومات, مات جوزي, مات وعلمني درس عظيم, إني كان لازم أصبر على أي بلاء, مهما كان شكله, لأنك لو مصبرتش فأهلا بيك في عالم الجحيم والعذاب, ولو انا خرجت منه فانت مش مؤكد إطلاقا تخرج منه..
“لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”

تابعونا على صفحة الفيس بوك 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى