ثقافةقصص

قصة قصيرة مؤانسة الكاتب ابراهيم عمار.مؤانسة

كتبت: حنان محمد بعرور

مؤانسة
عند الفجر ينقرُ المطرُ جدارَ الروح، تَفتحُ نوافذَ الذكريات ، تزيلُ بعض الأتربة العالقة، غبشُ الليل يحولُ بينها ورؤيته، لكنها تشعرُ به، تحسُّ أنفاسه تسري في حديقة روحها، ومَنْ غيره يأتيها في هذا الزمن الضنين، سنواتٌ طويلة مذ جاء بها من تلك القرية البعيدة، وبذرها في أرضه الجديدة فَنَمَتْ واعْشَوشَبتْ وطرحتْ بساتينًا من عنبٍ ونخلٍ ورمان، ماانفرطتْ حباته مع إلا مع الأيام ورياح المكتوب، وظلت هنا يَتشبثُ الجذرُ ببقايا الأرض التى زاد ملحها، لاغيره يروي عطشَ أوراقِ خريفها الذابلة، يُؤنسُ وحشةَ العمر الذي ولى، والجدران التى سكن ضَجيجُها، ولم يبقَ منها إلا نقوشُ الألوان الغائرة وشخبطاتُ الرصاص وبعضُ الابتسامات القديمة معلقةً على براويز الحائط.
عائدٌ هو الآن من صلاة الفجر كالعادة، ربما بلله المطرُ ويحتاج لكوبِ الشاي الساخن بالحليبِ وبعض (الفايش)، وحينما يتسلل شعاع الشتاء الناعم يتحسس طريق القلب الرفيف يكون موعد فنجان القهوة الصباحي وصوت فيروز (سألوني الناس عنك ياحبيبي..)، ترتدي السماء فستانها الثلجي طويل الذيل يتقاطر في الأفق.
تذكرُ يوم زفافها، لم تكن قد رأته قبل، مع الوقت أَنِستْ صوتَ شخيره الذي كان يزعجها من زمن فائت، لاتزالُ أنفاسُه تُرطبُ الوسادةَ، ورائحةُ عرقه تعزفُ الدفءَ في صدرها، سيطرقُ البابَ الآن وهي لاتزال مكانها، سيكرر قولته المحببة باسمًا: أشرقَ الصبحُ والشمسُ في خدرها!!
تحملُ زقزقةُ عصافيرِ الصبحِ من شباكِ المطبخِ المطلِ على شجرةِ التوتِ العتيقةِ موجاتٌ من الرسائلِ الهائمةِ عبر الأثيرِ، يغلبُه صوتُ برادِ الشاي يغلي، فيجنحُ ماردُه الأبيضُ منسحبًا للخلاء، ماأروعَ رائحةَ الشاي في الصباح !! يحبُها كثيرًا!! فاتَ من الوقت الكثيرُ وأنا أتلكأُ، (تقولُ…) ربما كنتُ أحبُ أن أسمعَ تعليقه، لابأس هذه المرة، ربما يقولُ جملةً جديدةً أو بيتَ شعرٍ ينظمه خصيصًا لمناسبة، رخيمًا صوته إذ يُلقي عليّ بعضَ قصائده ، صريرُ الباب وطقطقةُ القباب يعلنان حضوره، ومع إشراقة (صباح الخير) من بين ثنايا ابتسامةِ الوقارِ، أردد: (حرمًا ياحاج)….
صباحات وليال كثيرة طحنتها عجلةُ الزمن فلم يسعْ ما تبقى من دفاتر الذاكرة استيعابها.. تأخرَ هذه المرة على غيرِ عادته، ربما انشغل بشيءٍ في الحديقة هذا الصباح، تطيل النظر من نافذة الغرفة ، تناديه: (ياحاج .. تعال… الشاي بالحليب سيبرد)!!!
صوتُها هذا المبحوح منذ زمن لايكاد يبين، لكنه يسمعه جيدًا، كثيرًا ماقال: (صوتُك كصوت عصافير الجنة).. أين أنت ياحاج.. تأخرت كثيرا هذا الصباح.
لاح في ظلام الغرفة ضوءُ المصباح الكهربائي الأصفر، فزعة تدخلُ الابنةُ الصغرى على صوت الأنين تقتربُ من السرير النحاسي القديم، ترفعُ الرأس الذي ثقل، تجفف العرق النازف تمسح شلال الريم الأبيض بقطعة قماش مبللة، تضع في الفم بعض اللقيمات المالحة.. تدهن الجسم بكريم قروح الفراش، تتأكد من تناولها الدواء والشراب.. يسكن الجسد في غيبوبته المعتادة.. تطالع الابنة صورته على الحائط المقابل تتمتم: (ربنا يرحمك يابابا) !
تمت

تابعونا علي صفحة الفيس بوك 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى