دراسة نقدية عن “التناص الثقافي والزمكاني في جذر بطاطا” للدكتورة شيماء بكري.
كتبت حنان محمد بعرور

حبكة معقدة وإبيجراما سردية
امنح الشخص الذي تحبه… الأجنحة حتى يطير، والجذور حتى يعود، والسبب حتى يبقى.
إلى كل الباحثين عن الحقيقة تحت الركام، فوق السحاب، أو في طيات كتاب..
إلى كل ضحايا الحروب والاحتلال -بكل أنواعه- في كل مكان وزمان..
إلى كل مهاجر استقل طائرة ما، أو قاربًا ما، أو داخل صهريج ما!
إلى رسل الإنسانية والإخاء والمحبة… عابري الأسلاك الشائكة، محاربي طواحين الجمود، هادمي صوامع الكراهية ومحاريب التحريض…
أنا معكم جميعًا.. أنا منكم!
بتلك اللغة الشاعرة والأسلوب الأنيق، أبدع نشأت يونس في الربط بين عنوان الرواية والمقولة الافتتاحية والإهداء، فاجتمعوا معًا ليشكلوا إطارًا دلاليًا رائعًا يعكس مدى جوهر الرواية وأبعادها العميقة. تدور أحداث الرواية حول قضايا الهوية والانتماء والتصالح مع الماضي، مستندة إلى رؤية فنية تتجاوز السطح لتغرق القارئ في أعماق التجارب الإنسانية.
استطاع نشأت يونس بحرفية وإتقان أن يأخذ بيد القارئ ويحدفه حدفًا –إن صح التعبير- إلى داخل روايته، فيغوص به في عالم من التشويق والإثارة، حيث تتشابك الأحداث بطريقة محكمة تجعله يعيش بين شخصياتها ويتفاعل مع قصصها كأنها قطعة من واقعه. تتجلى براعة نشأت يونس في خلق عالم سردي يدعو القارئ إلى التمسك بالمبادئ والقيم، والتأمل في معنى الهوية والحفاظ عليها مع التأقلم على الجديد، وكيفية التصالح مع الذات والتاريخ.
تعتبر رواية “جذر بطاطا” عملًا سرديًا غنيًا، وظف من خلالها نشأت يونس تقنية الحبكة المحكمة والشخصية المتأزمة بشكل إبداعي يعكس صراعات الحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث. يعتمد الكاتب على التشابك الزمني والسرد المتعدد الطبقات، حيث تتداخل أزمنة الرواية بين الماضي والحاضر، لتظهر أزمات الشخصيات الرئيسية وكيفية تطورها.
استخدام نشأت يونس تقنية الحبكة بذكاء مما جعل القصة أكثر إقناعًا وتأثيرًا، حيث يشعر المتلقي بأن الأحداث تتطور بشكل طبيعي ومبرر، مما يعزز من عمق العمل الدرامي ويجعله أكثر قابلية للتذكر والتأمل. بالتالي، الحبكة ليست مجرد تسلسل للأحداث، بل هي فن: فترتيبها وتقديمها بطريقة تثير اهتمام القارئ أو المشاهد يخلق تأثيرًا دراميًا قويًا. الحبكة في الرواية مركبة ومتعددة المستويات، حيث تمزج بين الأحداث التاريخية والصراعات النفسية والسياسية. تتداخل خطان سرديان رئيسيان:
– الخط الزمني الأول: يدور في فترة الاحتلال البريطاني وثورة 1919، ويدور حول الدكتور متولي بطاطا، طبيب مصري يعمل في معسكر بريطاني، ويعيش صراعًا نفسيًا بين وظيفته وحبه للوطن.
– الخط الزمني الثاني: يحدث في عام 2022م في أستراليا، ويروي حياة ريان حفيد الدكتور متولي (ابن ابنه)، وهو جندي أسترالي من أصول مصرية يعاني من أزمة هوية حادة. ويتقاطع هذان الخطان السرديان بطريقة ذكية وغير تقليدية، ليكشف للقارئ كيف تؤثر أحداث الماضي على الحاضر، مما يمنح الرواية طابعًا ديناميكيًا ومثيرًا.
رواية “جذر بطاطا” للكاتب نشأت يونس تعد عملًا أدبيًا غنيًا بالتفاصيل التاريخية والاجتماعية، حيث تتداخل الأحداث الشخصية للشخصيات مع الأحداث التاريخية الكبرى، مما يخلق حبكة روائية متشابكة ومثيرة. سنقوم بتحليل الحبكة في الرواية من حيث البداية والوسط والنهاية، مع توضيح كيفية توظيف الكاتب لهذه التقنية بشكل إبداعي، مع ذكر الشواهد من النصوص.
إن التناص المكاني في الرواية يتجلى في الانتقال بين الأماكن المختلفة، مثل مصر (الشرقية، الإسماعيلية، القاهرة) وأستراليا (سيدني، أورانج). هذه الأماكن ليست مجرد خلفيات للحدث، بل هي جزء من الصراع الثقافي والهوياتي الذي تعيشه الشخصيات.
إن التناص الثقافي في الرواية يعكس الصراع بين الثقافة المصرية (الشرقية) والثقافة الأسترالية (الغربية)، وكذلك الصراع بين الهوية الوطنية والهوية الاستعمارية.
يعتمد الكاتب في “جذر بطاطا”، على الإبيجراما كأداة أدبية تعكس الصراع الهوياتي والثقافي بين الشرق والغرب، وبين الماضي والحاضر. هذه العبارات القصيرة تظهر في حوارات الشخصيات أو في تأملاتهم الذاتية، وتساعد على تكثيف المعاني وإبراز القضايا الجوهرية للرواية.
تعد الإبيجراما في “جذر بطاطا” وسيلةً فنيةً فعالةً تعكس تعقيدات الهوية، والذاكرة، والصراع الحضاري، والاغتراب. من خلال هذه العبارات المكثفة، ينجح نشأت يونس في تقديم رؤية فلسفية حول التناقضات التي تعيشها شخصياته، ويجعل القارئ يتوقف عندها للتأمل وإعادة التفكير.
وفي النهاية دائمًا ما أردد: أن “النقصُ سنةُ الحياةِ، والنقدُ قمةُ الإبداعِ”.
هذه المقولة التي تعكس حقيقة أن الكمال ليس من صفات البشر، وأن النقد البناء هو الذي يسهم في تطوير الأعمال الأدبية والفنية، ويجعلها أكثر نضجًا وعمقًا.
إن الرواية، بكل ما تحمله من إيجابيات وسلبيات، تظل عملًا أدبيًا يستحق القراءةَ والدراسة والتأمل.
تابعونا على صفحتنا الفيس بك